اختلاط النجاسة بالماء الجاري أو الراكد
الفتوى رقم (17)
اختلاط النجاسة بالماء الجاري أو الراكد
السؤال:
هل يجوز استعمال الماء الجاري الذي اختلطت به نجاسة؟
الجواب:
بسم الله والحمد لله وصلّى الله وسلم على رسول الله
أما بعد:
الماء الذي خالطته نجاسة سواء كان الماء راكداً أو جارياً أو قليلاً أو كثيراً فإن العبرة في ذلك هو تغيُّر الماء الذي خالطته هذه النجاسة، فإنْ لم يتغيَّر لون الماء ولا طعمه ولا رائحته بمخالطة هذه النجاسة فحكمه أنَّه طهور يجوز استعماله والتطهر به مطلقاً، سواء في رفع حدث أو إزالة نجس، وهذا مذهب المالكية كما سيأتي، وإن كان أهل العلم اختلفوا في ذلك على مذاهب، وفيما يلي أقوالهم:
أولاً: مذهب الحنفية:
وقد فرقوا بين كون الماء جاريًا أو راكداً، فإن وقع في الماء نجاسة وكان جاريًا والنجاسة غير مرئية ولم يتغير أحد أوصاف الماء فهو طاهر عندهم.
يقول الإمام الكاساني الحنفي رحمه الله: فإن وقع -أي النجس- في الماء فإن كان جاريًا وكان النجس غير مرئي كالبول والخمر ونحوهما لا ينجس ما لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه، ويتوضأ منه من أي موضع كان من الجانب الذي وقع فيه النجس، أو من جانب آخر. كذا ذكره محمد في كتاب الأشربة لو أن رجلاً صب خابية (1) الخمر في الفرات، ورجل آخر -أسفل منه- يتوضأ إن تغير لونه أو طعمه أو ريحه لا يجوز، وإن لم يتغير يجوز.
ثم قال: وعن أبي حنيفة في الجاهل بال في الماء الجاري ورجل أسفل منه يتوضأ به؟ قال: لا بأس به، وهذا لأن الماء الجاري مما لا يخلص بعضه إلى بعض، فالماء الذي يتوضأ به يحتمل أنه نجس ويحتمل أنه طاهر، والماء طاهر في الأصل، وإن كانت النجاسة مرئية كالجيفة ونحوها، فإن كان جميع الماء يجري على الجيفة لا يجوز التوضؤ من أسفل الجيفة لأنه نجس بيقين، والنجس لا يطهر بالجريان.
وإن كان أكثره يجري على الجيفة فكذلك، لأن العبرة للغالب.
وإن كان أقله يجري على الجيفة، والأكثر يجري على الطاهر يجوز التوضؤ به من أسفل الجيفة، لأن المغلوب ملحق بالعدم في أحكام الشرع.
وإن كان يجري عليها النصف، أو دون النصف فالقياس أنه يجوز التوضؤ به، لأن الماء كان طاهرًا بيقين، فلا يحكم بكونه نجسًا بالشك، وفي الاستحسان لا يجوز احتياطًا.
ثم قال واختلف المشايخ في حد الجريان.
قال بعضهم: هو أن يجري بالتبن والورق.
وقال بعضهم: إن كان بحيث لو وضع رجل يده في الماء عرضًا لم ينقطع جريانه فهو جار وإلا فلا.
وروي عن أبي يوسف: إن كان بحال لو اغترف إنسان الماء بكفيه لم ينحسر وجه الأرض بالاغتراف فهو جار وإلا فلا.
وقيل: ما يعده الناس جاريًا فهو جار، وما لا فلا وهو أصح الأقاويل.
وإن كان الماء راكدًا وكان قليلاً ينجس وإن كان كثيرًا لا ينجس(2).
وقد بينت حد القليل والكثير كما سبق في الفتوى رقم (16).
ثانيًا: مذهب المالكية:
قال الدسوقي رحمه الله: إنّ الماء اليسير وهو ما كان قدر آنية الوضوء أو الغسل فما دونهما إذا حلت فيه نجاسة قليلة كالقطرة ولم تغيره فإنه يكره استعماله في رفع حدث أو في حكم خبث ومتوقف على طهور كالطهارة المسنونة والمستحبة.
وأما استعماله في العادات فلا كراهة فيه، فالكراهة خاصة بما يتوقف على طهور.
ثم قال: الحاصل أن الكراهة مقيدة بقيود سبعة: أن يكون الماء الذي حلت فيه النجاسة يسيرًا، وأن تكون النجاسة التي حلت فيه قطرة فما فوقها، وأن لا تغيره، وأن يوجد غيره، وأن لا يكون له مادة كبئر، وأن لا يكون جاريًا، وأن يراد استعماله فيما يتوقف على طهور كرفع حدث وحكم خبث وأوضية واغتسالات مندوبة فإن انتفى قيد منها فلا كراهة (3).
وعلى هذا والله أعلم أنه إن كان الماء جاريًا وحلت به نجاسة ولكن لم تغيره فلا يكره استعماله.
ثالثًا: مذهب الشافعية:
قال الشيرازي رحمه الله في «المهذب»: إذا وقعت في الماء نجاسة لا يخلو: إما أن يكون راكدًا أو جاريًا، أو بعضه راكدًا وبعضه جاريًا.
أ- فإن كان راكدًا: نظرت في النجاسة: فإن كانت نجاسة يدركها الطرف من خمر وبول أو ميتة لها نفس سائلة نظرت، فإن تغير أحد أوصافه من طعم أو لون أو رائحة فهو نجس لقوله ﷺ: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، إِلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمُهُ أَوْ رِيْحُهُ»(4) فنص على الطعم والريح، وقسنا اللون عليهما؛ لأنه في معناهما.
وإن تغير بعضه بدون بعض نجس الجميع؛ لأنه ماء واحد، فلا يجوز أن ينجس بعض دون بعض.
وإن لم يتغير: نظرت: فإن كان الماء دون القلتين فهو نجس، وإن كان قلتين فصاعدًا فهو طاهر لقوله ﷺ: «إذا كان الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لم يَحْمِلْ الْخَبَثَ» ولأن القلتين يمكن حفظه من النجاسة في الظروف، والكثير لا يمكن حفظه من النجاسة فجعل القلتين حدًا فاصلاً بينهما.
ثم قال: وإن كانت النجاسة مما لا يدركها الطرف ففيه ثلاثة طرق:
من أصحابنا من قال: لا حكم لها، لأنها لا يمكن الاحتراز منها فهي كغبار السرجين.
ومنهم من قال: حكمها حكم سائر النجاسات لأنها نجاسة متيقنة فهي كالنجاسة التي يدركها الطرف.
ومنهم من قال: فيه قولان:
كما بين حكمه إن كان جاريًا فقال:
ب- وإن كان الماء جاريًا وفيه نجاسة جارية كالميتة الجرية (5) المتغيرة فالماء الذي قبلها طاهر؛ لأنه لم يصل إلى النجاسة فهو كالماء الذي يصب على النجاسة من إبريق، والذي بعدها طاهر أيضًا؛ لأنه لم تصل إليه النجاسة، وأما ما يحيط بالنجاسة من فوقها وتحتها ويمينها وشمالها فإن كان قلتين ولم يتغير فهو طاهر، وإن كان دونهما فهو نجس كالراكد.
وقال أبو العباس بن القاص: فيه قول آخر قاله في القديم: أنه لا ينجس الماء الجاري إلا بالتغير، لأنه ماء ورد على النجاسة فلم ينجس من غير تغير، كالماء المزال به النجاسة.
وإن كانت النجاسة واقفة والماء يجري عليها، فإن ما قبلها وما بعدها طاهر، وما يجري عليها إن كان قلتين فهو طاهر، وإن كان دونهما فهو نجس، وكذلك كل ما يجري عليها بعدها فهو نجس، ولا يطهر شيء من ذلك حتى يركد في موضع ويبلغ قلتين.
وإن كان بعضه جاريًا وبعضه راكدًا: بأن يكون في النهر موضع منخفض يركد فيه الماء والماء يجري بجنبه والراكد زائل عن سمة الجري: فوقع في الراكد نجاسة وهو دون القلتين، فإن كان مع الجرية التي يحاذيها يبلغ قلتين فهو طاهر.
وإن لم يبلغ قلتين فهو نجس، وتتنجس كل جرية بجنبها إلى أن يجتمع في موضع قلتين فيطهر(6).
رابعًا: مذهب الحنابلة:
قال الحنابلة: إذا تغير الماء بمخالطة النجاسة فهو نجس.
وإن لم يتغير وهو يسير ففيه روايتان:
الرواية الأولي: ينجس، وهو المذهب وعليه الأصحاب وعموم هذه الرواية يقتضي النجاسة سواء أدركها الطرف أو لا، وهو الصحيح وهو المذهب.
والرواية الثانية: لا ينجس.
قال في الإنصاف: هذا الخلاف في الماء الراكد أما الجاري فعن أحمد أنه كالراكد إن بلغ جميعه قلتين رفع النجاسة وإن لم تغيره وإلا فلا وهي المذهب.
قال في الحاوي الصغير: ولا ينجس قليل جار قبل تغيره في أصح الروايتين، وعن أحمد تعتبر جرية بنفسها اختارها القاضي وأصحابه وقال هي المذهب.
قال الزركشي: هي اختيار الأكثرين(7).
المفتي: الشيخ الدكتور ياسر النجار الدمياطي، مؤلف موسوعة الفقه على المذاهب الأربعة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الخابية: وعاء كبير من الطين يُصَبُّ فيه الماء أو الزيت ونحوهما. انظر معجم لغة الفقهاء (191).
(2) بدائع الصنائع (1/249/250).
(3) حاشية الدسوقي (1/70/71).
(4)سبق تخريجه.
(5) قال النووي: هي بكسر الجيم وهي الدفعة التي بين حافتي النهر في العرض هكذا فسرها أصحابنا المجموع (2/121).
(6) المهذب (1/5/7) والمجموع (2/69/123) والأم (1/4).
(7) الإنصاف (1/56/57) والكافي (1/9) والمبدع (1/53) والمغني (1/58).
الفتوى بصيغة فيديو: