الحد الذي يفصل بين الماء القليل والماء الكثير
الفتوى رقم (16)
الحد الذي يفصل بين الماء القليل والماء الكثير
السؤال:
ما الحد الذي يفصل بين الماء القليل والماء الكثير؟
الجواب:
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
اختلف أهل العلم رحمهم الله في الحد الذي يفصل بين الماء القليل والماء الكثير على ثلاثة أقوال:
القول الأول: وهو مذهب الحنفية أن الماء إن كان بحال يخلص بعضه إلى بعض -أي يتمازج الماء بعضه ببعض- فهو قليل، وإن كان لا يخلص فهو كثير.
ثم اختلف أصحاب هذا القول في تفسير الخلوص.
قال الكاساني رحمه الله: اختلفوا في تفسير الخلوص، فاتفقت الروايات عن أصحابنا أنه يعتبر الخلوص بالتحريك، وهو أنه إن كان بحال لو حُرك طرف منه يتحرك الطرف الآخر فهو مما يخلص، وإنما اختلفوا في جهة التحريك، فروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه يعتبر التحريك بالاغتسال من غير عنف، وروى محمد عنه أنه يعتبر التحريك بالوضوء، وفي رواية باليد من غير اغتسال ولا وضو(1).
أما الغدير العظيم الذي لو حُرك طرف منه لا يتحرك الطرف الآخر إذا وقعت في أحد جانبيه نجاسة جاز الوضوء من الجانب الآخر؛ لأن الظاهر أن النجاسة لا تصل إليه (2).
واستدلوا بما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «إذا اسْتَيْقَظَ أحدكم من نَوْمِهِ فلا يَغْمِسْ يَدَهُ في الْإِنَاءِ حتى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فإنه لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»(3).
قالوا: فلو كان ماء الإناء لا ينجس بالغمس لم يكن للنهي لوهم النجاسة معنى، ومعلوم أن ماء الإناء إذا حركه آدمي من أحد طرفيه سرت الحركة فيه إلى الطرف الآخر.
وكذا الأخبار مستفيضة بالأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب مع أنه لا يتغير لونه ولا طعمه ولا ريحه(4).
القول الثاني: وهو مذهب الإمام مالك، ويرى أنه إن تغير لونه أو طعمه أو ريحه فهو قليل، وإن لم يتغير فهو كث(5).
القول الثالث: وهو مذهب الشافعية والحنابلة أن الماء إذا بلغ قلتين فهو كثير، وإلا فهو قليل.
واستدلوا على هذا بما رواه ابن عمر رضي الله عنه أن النبي ﷺ سُئِلَ عن الْمَاءِ يَكُونُ في الْفَلَاةِ من الأرض وما يَنُوبُهُ من السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ قال: فقال رسول الله ﷺ: «إذا كان الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لم يَحْمِلْ الْخَبَثَ» وفي رواية: «لم يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ»(6).
قال ابن قدامة رحمه الله: وتحديده بالقلتين يدل على أن ما دونهما ينجس، إذ لو استوى حكم القلتين وما دونهما لم يكن التحديد مفيدًا(7).
وقال الشيرازي رحمه الله: ولأن القلتين يمكن حفظه من النجاسة في الظروف والكثير لا يمكن حفظه من النجاسة فنجعل القلتين حدًا فاصلاً بينهما(7).
قال الحافظ رحمه الله: قوله «لم يَحْمِلْ الْخَبَثَ» معناه: لم ينجس بوقوع النجاسة فيه، كما فسر في الرواية الأخرى التي رواها أبو داود وابن حبان وغيرهما: «إذا بلغ الماء قلتين لم يتنجس» والتقدير لا يقبل النجاسة، بل يدفعها عن نفسه، ولو كان المعنى: أنه يضعف عن حمله لم يكن للتقيد للقلتين معنى ما دونهما أولى بذلك، وقيل: معناه لا يقبل حكم النجاسة كما في قوله تعالي: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ﴾[الجمعة: 5] أي: لم يقبلوا حكمها(8).
المفتي: الشيخ الدكتور ياسر النجار الدمياطي، مؤلف موسوعة الفقه على المذاهب الأربعة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بدائع الصنائع (1/252).
(2) بدائع الصنائع (1/253) مختصر القدوري (13).
(3) رواه مسلم (87).
(4) البدائع (1/251) مختصر القدوري (13).
(5) بداية المجتهد (1/46) وتحفة الفقهاء (1/56) والبدائع (1/250) ومجموع الفتاوى (21/30) والشرح الكبير (1/71).
(6) صحيح: رواه النسائي (1/46) وأبو داود (63، 64) والترمذي (67) وابن ماجه (517) وأحمد (2/27) والدارمي (731) والحاكم (1/224) وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، والبيهقي في الكبير (1/261) والدارقطني (1/19/20) وابن حبان صححه (1245) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (56) وحسنه النووي في المجموع (2/70) وقال الخطابي: ويكفي شاهدًا على صحته أن نجوم أهل الحديث صححوه وقالوا به واعتمدوه في تحديد الماء وهم القدوة وعليهم المعول في هذا الباب المجموع (2/76).
(7) المغني (1/52).
(8) المجموع (2/70).
(9) تلخيص الحبير (1/140).
الفتوى بصيغة فيديو: