حكم الوضوء بالماء المستعمل
رقم الفتوى (8)
حكم الوضوء بالماء المستعمل
السؤال:
هل يجوز لي إذا توضأت بماء أن أتوضأ به مرة أخرى ؟
الجواب:
بسم الله والحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله أما بعد:
الماء المستعمل فيه خلاف كبير بين الفقهاء في تفسيره وفي حكمه، وملخص ذلك الخلاف:
أن الحنفية والشافعية ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله ذهبوا إلى أن الماء المستعمل الذي قد تُوُضِّئَ به مرة لا يُتَوضَّأُ به، ومن تَوضَّأ به أعاد أبدًا؛ لأنه ليس بماء مطلق، ويتيمم واجده؛ لأنه ليس بواجد ماء.
وذهب الإمام مالك رحمه الله: إلى أنه لا يُتَوَضَّأُ به إذا وُجِدَ غيرُه وقال: لا خيرَ فيه. فإن لم يجد غيره توضأ به ولم يتيمم، لأنه ماء طاهر لم يغيره شيء.
وذهب الإمام أحمد في الرواية الثانية: إلى أنه طاهر مطهر يجوز الوضوء به.
أما الماء الذي استعمل في التبريد والتنظيف فإنه باق على إطلاقه يجوز التطهر به بلا خلاف بين الفقهاء(1).
وإليك تفصيل أهل العلم في تفسير الماء المستعمل وحكم استعماله
الماء المستعمل عند الحنفية:
الماء المستعمل عند أبي حنيفة وأبي يوسف: هو الماء الذي أزيل بعد حدث أو استعمال في البدن على وجه القربة، كالوضوء على الوضوء بنية التقرب أو لإسقاط فرض.
وعند محمد بن الحسن: هو الماء الذي استعمل لإقامة قربة.
وعند زُفر: هو الماء المستعمل لإزالة الحدث.
والمذهب عند الحنفية: أن الماء يصير مستعملاً بمجرد انفصاله عن البدن(2).
ويظهر أثر هذا الخلاف عندهم من المراد من الماء المستعمل فيما يلي:
أولاً: إذا توضأ بنية إقامة القربة نحو الصلاة المعهودة وصلاة الجنازة ودخول المسجد وقراءة القرآن ونحوها.
فإن كان محدثًا صار الماء مستعملاً بلا خلاف لوجود السببين، وهما: إزالة الحدث، وإقامة القربة.
وإن كان غير محدث يصير الماء مستعملاً عند الثلاثة (أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد) لوجود إقامة القربة، لكون الوضوء على الوضوء نوراً على نور.
وعند زُفر: لا يصير الماء مستعملاً لانعدام إزالة الحدث.
ثانيًا: إذا توضأ أو اغتسل للتبرد، فإن كان محدثًا صار الماء مستعملاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر، لوجود إزالة الحدث، وعند محمد لا يصير مستعملاً لعدم إقامة القربة، وإن لم يكن محدثًا لا يصير مستعملاً بالاتفاق.
ثالثًا: إذا توضأ بالماء المقيد كماء الورد ونحوه لا يصير مستعملاً بالاتفاق، لأن التوضؤ به غير جائز، فلم يوجد إزالة الحدث ولا إقامة القربة.
رابعًا: إذا غسل الأشياء الطاهرة من النبات والثمار والأواني والأحجار ونحوه، أو غسل يده من الطين والوسخ، أو غسلت المرأة يدها من العجين أو الحناء ونحو ذلك، لا يصير الماء مستعملاً.
والماء المستعمل عندهم -أي الحنفية- ليس بطهور لحدث بل لخبث على الراجح المعتمد فإنه يجوز إزالة النجاسة الحقيقية به(3).
وذهب المالكية إلى أن الماء المستعمل: هو ما استعمل في رفع حدث أو في إزالة حكم خبث، وأن المستعمل في رفع حدث: هو ما تقاطر من الأعضاء أو اتصل بها واستمر على اتصاله، أو انفصل عنها وكان المنفصل يسيراً، أو غسل عضوه فيه كماء في قصريه أدخل يده أو رجله فيها ودلكها فيها؛ لأن الاستعمال بالدلك لا بمجرد إدخال العضو.
وحكمه عندهم: أنه طاهر مطهر لكن يكره استعماله في رفع حدث أو اغتسالات مندوبة مع وجود غيره إذا كان يسيرًا.
ولا يكره على الأرجح استعماله مرة أخرى في إزالة النجاسة أو غسل إناء ونحوه.
والكراهة مقيدة بأمرين كما يقول الدسوقي رحمه الله: أن يكون ذلك الماء المستعمل قليلاً كآنية الوضوء والغسل وأن يوجد غيره وإلا فلا كراهة كما أنه لا كراهة إذا صُبَّ على الماء اليسير المستعمل ماءٌ مطلقٌ غيرُ مستعمل، فإن صُبَّ عليه مستعملٌ مثله حتى كثر لم تنتفِ الكراهة؛ لأن ما ثبت للأجزاء يثبت للكل، واستظهر ابن عبد السلام نفيها(4).
وقال الدردير رحمه الله: الماء اليسر الذي هو قدر آنية الغسل فأقل المستعمل في حدث يكره استعماله في حدث بشروط ثلاثة: أن يكون يسيرًا، وأن يكون استُعمل في رفع حدث لا حكم خبث، وأن يكون الاستعمال الثاني في رفع حدث(5).
قال الشيخ أحمد الصاوي رحمه الله: وعلى هذا فإن الماء المستعمل في حكم خبث لا يكره له استعماله، وأن الماء المستعمل في حدث لا يكره استعماله في حكم خبث(6).
والراجح في تعليل الكراهة أنه مختلف في طهوريته والله أعلم(7).
والماء المستعمل عند الشافعية: هو الماء القليل المستعمل في فرض الطهارة عن حدث كالغسلة الأولى فيه، أو في إزالة نجس عن البدن أو الثوب، أما نفل الطهارة كتجديد الوضوء والغسلة الثانية والثالثة ففيه وجهان الصحيح كما قال النووي رحمه الله: أنه ليس بمستعمل وهو ظاهر نص الشافعي(8).
وقال أيضًا: واتفقوا على أن المستعمل في الغسلة الرابعة ليس بمستعمل لأنها ليست بنفل(9).
ويفرق الشافعية بين القليل الذي لا يبلغ قلتين، وبين الكثير الذي بلغ قلتين فأكثر.
فيرون في المذهب الجديد: أن القليل من الماء المستعمل طاهر غير طهور، فلا يرفع حدثًا ولا يزيل نجسًا؛ لأن السلف الصالح كانوا لا يحترزون عنه ولا عما يتقاطر عليهم منه.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «جاء رسول الله ﷺ يَعُودُنِي وأنا مَرِيضٌ لَا أَعْقِلُ فَتَوَضَّأَ وَصَبَّ عَلَيَّ من وَضُوئِهِ فَعَقَلْتُ»(10).
ولأن السلف مع قلة مياههم لم يجمعوا الماء المستعمل ثانيًا بل انتقلوا إلى التيمم، كما لم يجعلوه للشرب لأنه مستقذر.
فإن جُمع الماء المستعمل فبلغ قلتين فطهور على الأصح(11).
قال الشربيني رحمه الله: واختلف في علة منع استعمال الماء المستعمل فقيل: وهو الأصح: إنه غير مطلق كما صححه النووي وغيره(12).(13).
فإن جُمع المستعمل على الجديد فبلغ قلتين فطهور في الأصح؛ لأن النجاسة أشد من الاستعمال، والماء المتنجس لو جُمع حتى بلغ قلتين أي ولا تغير به صار طهورًا قطعًا، فالمستعمل أولى.
ومقابل الأصح لا يعود طهورًا؛ لأن قوته صارت مستوفاة بالاستعمال فالتحق بماء الورد ونحوه: وهذا اختيار بن سريج(14).
وقال الإمام الشيِرازي رحمه الله: الماء المستعمل ضربان:
مستعمل في طهارة الحدث، ومستعمل في طهارة النجس.
فأما المستعمل في طهارة الحدث فينظر فيه، فإن استعمل في رفع حدث فهو طاهر؛ لأنه ماء طاهر لاقى محلاً طاهرًا، كما لو غُسل به ثوب طاهر. وهل تجوز به الطهارة أم لا؟ فيه طريقان: من أصحابنا من قال: فيه قولان: (المنصوص) أنه لا يجوز لأنه زال عنه إطلاق اسم الماء فصار كما لو تغير بالزعفران. وروي عنه أنه قال: يجوز الوضوء به؛ لأنه استعمال لم يغير صفة الماء، فلم يمنع الوضوء به؛ كما لو غسل به ثوب طاهر ومن أصحابنا من لم يُثبت هذه الرواية.
ثم قال: وأما المستعمل في النجس فينظر فيه: فإن انفصل عن المحل وتغير فهو نجس؛ لقوله ﷺ: «الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمُهُ أَوْ رِيْحُهُ»(15).
وإن كان غير متغير ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه طاهر وهو قول أبي العباس وأبي إسحاق؛ لأنه ماء لا يمكن حفظه من النجاسة فلم ينجس من غير تغير، كالماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة.
والثاني: أنه ينجس، وهو قول أبي القاسم الأنماطي، لأنه ماء قليل لاقى نجاسة، فأشبه ما إذا وقعت فيه نجاسة.
والثالث: أنه إن انفصل والمحل طاهر فهو طاهر، وإن انفصل والمحل نجس فهو نجس.وهو قول أبي العباس بن القاص، لأن المنفصل في جملة الباقي في المحل، فكان حكمه في النجاسة والطهارة حكمه(16).
الماء المستعمل عند الحنابلة:
ظاهر المذهب عند الحنابلة أن الماء الذي استعمل في رفع الحدث ولم يتغير أحد أوصافه طاهر غير مطهر، لا يرفع حدثًا ولا يزيل نجسًا.
وعن الإمام أحمد رواية أخرى: أنه طاهر مطهر(17).
لأنه غُسل به محل طاهر، فلم تزل به طهوريته كما لو غسل به الثوب، ولأنه لاقى محلاً طاهرًا فلا يخرج عن حكمه بتعاديه الفرض به، كالثوب يصلي فيه مرارًا.
أما الماء المستعمل في طهارة مستحبة غير واجبة كتجديد الوضوء والغسلة الثانية والثالثة في الوضوء، والغسل للجمعة والعيدين وغيرهم ففيه روايتان:
إحداهما: أنه كالمستعمل في رفع الحدث لأنها طهارة مشروعة، أشبه ما لو اغتسل به من جنابة.
والثاني: لا يمنع الطهورية؛ لأنه لم يزل مانعًا من الصلاة، أشبه ما لو تبرد به، فإن لم تكن الطهارة مشروعة لم يؤثر استعمال الماء فيها شيئًا كالغسلة الرابعة في الوضوء وكان كما لو تبرد، أو غسل به ثوبه.
قال ابن قدامة رحمه الله: ولا تختلف الرواية أن ما استعمل في التبرد والتنظيف أنه باق على إطلاقه، ولا نعلم فيه خلافًا(18).
أما الماء المستعمل في تعبد من غير حدث كغسل اليدين من نوم الليل فقد قال ابن قدامة رحمه الله: فإن قلنا: ليس ذلك بواجب، لم يؤثر استعماله في الماء، وإن قلنا: بوجوبه فقال القاضي: هو طاهر غير مطهر، وذكر أبو الخطاب فيه روايتين:
إحداهما: أنه يخرج عن إطلاقه، لأنه مستعمل في طهارة تعبد، أشبه المستعمل في رفع الحدث، ولأن النبي ﷺ نهى أن يغمس القائم من نوم الليل يده في الإناء قبل غسلها، فدل ذلك على أنه يفيد منعًا.
والرواية الثانية: أنه باق على إطلاقه، لأنه لم يرفع حدثًا، أشبه المتبرد به(19).
المفتي: الشيخ الدكتور ياسر النجار الدمياطي، مؤلف موسوعة الفقه على المذاهب الأربعة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التمهيد (4/42/43) والأوسط (1/285) ونيل الأوطار ( 1/63) والمغني (1/46) وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/414) وهو يشرح حديث أبي هريرة: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة، قيل: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال يتناوله تناولاً» فدل على أن المنع من الانغماس فيه لئلا يصير مستعملاً فيمتنع عن الغير الانتفاع به، والصحابي أعلم بموارد الخطاب من غيره، وهذا من أقوى الأدلة على أن المستعمل غير طهور.
(2) فتح القدير (1/86/90) وتبين الحقائق (1/24) والهداية شرح البداية (1/20) ومختصر القدوري (13) والبحر الرائق (1/103) وانظر فتح الباري (1/355/414) وأحكام القرآن للجصاص (5/210).
(3) بدائع الصنائع (1/244/24) وحاشية ابن عابدين (1/348/353) ومختصر القدوري (13) مع بقية المصادر السابقة.
قال الحافظ في الفتح (1/355) ـ قول من قال بنجاسة الماء المستعمل هو أبو يوسف وحكى الشافعي في «الأم» عن محمد بن الحسن أن أبا يوسف رجع عنه ثم رجع إليه بعد شهرين، وعن أبي حنيفة ثلاث روايات: الأولى: طاهر لا طهور، وهي رواية محمد بن الحسن عنه وهو قوله وقول الشافعي في الجديد، وهو المفتى به عند الحنفية. والثاني: نجس نجاسة خفيفة، وهي رواية أبي يوسف عنه. والثالث: نجس نجاسة غليظة.
(4) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير ( 1/68/69) والمدونة (1/21) وبداية المجتهد (1/50) ومواهب الجليل (1/66).
(5) الشرح الصغير مع بلغة السالك (1/27/28).
(6) بلغة السالك (1/26).
(7) المصادر السابقة وحاشية العدوي على الخرشي(1/74/76).
(8) المجموع شرح المهذب (2/139) والمهذب (1/8) وروضة الطالبين (1/138).
(9) المجموع شرح المهذب (2/139).
(10) أخرجه البخاري (194) ومسلم (161).
(11) مغني المحتاج (1/82/83) والمجموع (2/138/142).
(12) مغني المحتاج (1/82/83) والمجموع (2/138/142).
(13) وقال الحصني في كفاية الأخيار (54): الصحيح أنه تأدى به فرض، وقيل: أنه تأدى به عبادة وتظهر فائدة الخلاف في صورتين:
الأولى: في ماء استُعَمِلَ في نفي الطهارة كتجديد الوضوء والأغسال المسنونة وماء الغسلة الثانية والثالثة فعلى الصحيح: يكون الماء طهورًا؛ لأنه لم يتأدى به فرض، وعلى الضعيف: لا يكون طهورًا؛ لأنه تأدى به عبادة، ولا خلاف أن ماء الرابعة طهور؛ لأنه لم يتأدى به فرض ولا هي مشروعة، والغسلة الأولى (أي ماء الغسلة الأولى) غير طهور على العلتين؛ لتأدِّي الفرض والعبادة بمائها.
الصورة الثانية: الماء الذي اغتسلت به الكتابية عن حيض لتحل لزوجها المسلم هل هو طهور؟ ينبني على أنها لو أسلمت هل يلزمها إعادة الغسل؟ وفيه خلاف إن قلنا: لا يلزمها فهو غير طاهر، وإن قلنا: يلزمها إعادة الغسل وهو الصحيح ففي الماء الذي استعملته حال الكفر وجهان مبنيان على العلتين: إن قلنا: إن العلة تأدي الفرض فالماء غير طهور، وإن قلنا: إن العلة تأدي العبادة فهو طهور؛ لأن الكافرة ليست من أهل العبادة.
(14) مغني المحتاج (1/83) والمجموع (2/138)
(15) رواه ابن ماجه (521) والطبراني في الكبير (8/104) والدارقطني في سننه (1/28) قال النووي: ضعيف لا يصح الاحتجاج به وقد رواه ابن ماجة والبيهقي من رواية أبي إمامة وذكرا فيه: طعمه أو ريحه أو لونه واتفقوا على ضعفه، ونقل الإمام الشافعي /: تضعيفه عن أهل الحديث وبين البيهقي ضعفه. وإذا علم بيان ضعف الحديث تعين الاحتجاج بالإجماع كما قال البيهقي وغيره من الأئمة، وقد أشار إليه الشافعي أيضًا فقال: الحديث لا يثبت أهل الحديث مثله ولكنه قول العامة لا أعلم بينهم فيه خلاف. المجموع (2/69).
(16) المهذب (1/8) والمجموع (2/139/140) وراجع كلام النووي فإنه مفيد.
(17) وبه قال الحسن وعطاء والنخعي والزهري ومكحول وأهل الظاهر والرواية الثانية لمالك، والقول الثاني للشافعي. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية مجموع الفتاوى (20/519) وابن المنذر انظر الأوسط (1/285/288) والمغني (1/46) وهو أيضًا قول علي بن أبي طالب وابن عمر وأبي أمامة.
(18) المغني (1/46).
(19) المغني (1/43/46).
رابط الفتوى بصيغة فيديو :