هل أكل لحم الإبل ينقض الوضوء أم لا؟
الفتوى رقم(103)
هل أكل لحم الإبل ينقض الوضوء أم لا؟
السؤال:
أكلت لحم جمل في المطعم فاخبرني صديق لي أنه ينقض الوضوء، فهل هذا صحيح أم ليس صحيحًا؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
اختلف الفقهاء فيمن أكل لحم إبل، هل ينتقض وضوءه أم لا؟
فذهب الحنفية والمالكية والشافعية في المذهب والإمام أحمد في رواية إلى أن من أكل لحم جزور لم يجب عليه الوضوء؛ لحديث جابر رضي الله عنه أنه قال: «كان آخِرُ الْأَمْرَيْنِ من رسول الله ﷺ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ»(1)، ولأنه إذا لم ينقض الوضوء بأكل الخنزير وهو حرام فلَأن لم ينتقض بغيره أولى، ولأنه مأكول أشبه المأكولات.
ولحديث: «الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ وَلَيْسَ مِمَّا يَدْخُلُ» رواه البيهقي موقوفاً عن ابن عباس، وفيه الفضل بن المختار وهو ضعيف جداً، وفيه شعبة مولى ابن عباس وهو ضعيف. قال ابن عدي: الأصل في هذا الحديث أنه موقوف. وقال البيهقي: لا يثبت مرفوعاً. ورواه سعيد بن منصور من طريق الأعمش عن أبي ظبيان عنه، ورواه الطبراني من حديث أبي أمامة. قال الحافظ ابن حجر: وإسناده أضعف من الأول(2).
قال الكاساني رحمه الله: والمعنى في المسألة أن الحدث هو خروج النجس حقيقة أو ما هو سبب الخروج ولم يوجد(3).
وذهب الحنابلة في المذهب وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية واختيار النووي والبيهقي وابن المنذر وابن خزيمة من الشافعية وهو الصحيح من أقوال أهل العلم إلى وجوب الوضوء من أكل لحوم الإبل.
قال النووي رحمه الله: هذا هو القوي أو الصحيح من حيث الدليل وهو الذي أعتقد رجحانه، فإن فيه حديثين صحيحين ليس عنهما جواب شافٍ، وقد اختاره جماعة من محققي أصحابنا المحدثين(4).
لحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي ﷺ: «قال يا رسول الله: أَنَتَوَضَّأُ من لُحُومِ الإِبِلِ؟ قال: نعم»(5).
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «سُئِلَ رَسُولُ الله ﷺ عَنِ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، فَقَالَ: «تَوَضَّئُوا مِنْهَا» وَسُئِلَ عَنْ لُحُومِ الْغَنَمِ، فَقَالَ: «لَا تَوَضَّئُوا مِنْهَا».
قال أبو حاتم ابن حبان رحمه الله بعد أن ذكر حديث البراء هذا: في سؤال السائل عن الوضوء من لحوم الإبل وعن الصلاة في أعطانها وتفريق النبي ﷺ بين الجوابين أرى البيان أنه أراد الوضوء المفروض للصلاة دون غسل اليدين، ولو كان ذلك غسل اليدين من الغمر لاستوى فيه لحوم الإبل والغنم جميعاً، وقد كان ترَك الوضوء مما مسته النار، وبقي المسلمون عليه مدة، ثم نسخ ذلك وبقي لحوم الإبل مستثنى من جملة ما أبيح بعد الحظر(6).
قال الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه رحمهم الله: فيه حديثان صحيحان عن النبي ﷺ حديث البراء وحديث جابر بن سمرة.
قال ابن قدامة رحمه الله: وحديثهم عن ابن عباس لا أصل له، وإنما هو من قول ابن عباس موقوفاً عليه، ولو صح لوجب تقديم حديثنا عليه؛ لكونه أصح منه وأخص، والخاص يقدم على العام، وحديث جابر لا يعارض حديثنا أيضاً لصحته وخصوصه، فإن قيل: فحديث جابر متأخر فيكون ناسخاً، قلنا: لا يصح النسخ به لوجوه أربعة:
أحدها:أن الأمر بالوضوء من لحوم الإبل متأخر عن نسخ الوضوء مما مست النار أو مقارن له، بدليل أنه قرن الأمر بالوضوء من لحوم الإبل بالنهي عن الوضوء من لحوم الغنم، وهي مما مست النار، فإما أن يكون النسخ حصل بهذا النهي وإما أن يكون بشيء قبله، فإن كان به والأمر بالوضوء من لحوم الإبل مقارن لنسخ الوضوء مما غيرت النار فكيف يجوز أن يكون منسوخاً به؟ ومن شروط النسخ تأخر الناسخ، وإن كان الناسخ قبله، لم يجز أن ينسخ بما قبله.
والثاني:أن أكل لحوم الإبل إنما نقض لكونه من لحوم الإبل لا لكونه مما مست النار، ولهذا ينقض وإن كان نيئاً، فنسخ إحدى الجهتين لا يثبت به نسخ الجهة الأخرى، كما لو حرمت المرأة للرضاع ولكونها ربيبة، فنسخ التحريم بالرضاع لم يكن نسخاً لتحريم الربيبة.
والثالث:أن خبرهم عام وخبرنا خاص، والعام لا ينسخ به الخاص؛ لأن من شروط النسخ تعذر الجمع، والجمع بين الخاص والعام ممكن بتنزيل العام على ما عدا محل التخصيص.
والرابع:أن خبرنا صحيح مستفيض ثبت له قوة الصحة والاستفاضة والخصوص، وخبرهم ضعيف لعدم هذه الوجوه الثلاثة فيه، فلا يجوز أن يكون ناسخاً له.
فإن قيل:الأمر بالوضوء في خبركم يحتمل الاستحباب، فنحمله عليه، ويحتمل أنه أراد بالوضوء قبل الطعام وبعده غسل اليدين؛ لأن الوضوء إذا أضيف إلى الطعام اقتضى غسل اليد، كما كان ﷺ يأمر بالوضوء قبل الطعام وبعده، وخص ذلك بلحم الإبل لأن فيه من الحرارة والزهومة ما ليس في غيره.
قلنا:أما الأول فمخالف للظاهر من ثلاثة أوجه:
أحدها:أن مقتضى الأمر الوجوب.
والثاني:أن النبي ﷺ سئل عن حكم هذا اللحم، فأجاب بالأمر بالوضوء منه، فلا يجوز حمله على غير الوجوب؛ لأنه يكون تلبيساً على السائل لا جواباً.
والثالث:أنه ﷺ قرنه بالنهي عن الوضوء من لحوم الغنم والمراد بالنهي هاهنا نفي الإيجاب لا التحريم، فيتعين حمل الأمر على الإيجاب ليحصل الفرق.
وأما الثاني: فلا يصح لوجوه أربعة:
أحدها:أنه يلزم منه حمل الأمر على الاستحباب، فإن غسل اليد بمفرده غير واجب، وقد بينا فساده.
والثاني: أن الوضوء إذا جاء على لسان الشارع وجب حمله على الموضوع الشرعي دون اللغوي؛ لأن الظاهر منه أنه إنما يتكلم بموضعاته.
والثالث: أنه خرج جواباً لسؤال السائل عن حكم الوضوء من لحومها والصلاة في مباركها، فلا يفهم من ذلك سوى الوضوء المراد للصلاة.
والرابع: أنه لو أراد غسل اليد لما فرق بينه وبين لحم الغنم، فإن غسل اليد منهما مستحب، ولهذا قال: «مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ رِيحُ غَمَرٍ(7) فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ»(8)، وما ذكروه من زيادة الزهومة فأمر يسير لا يقتضي التفريق، والله أعلم.
ثم لا بد من دليل نصرف به اللفظ عن ظاهره، ويجب أن يكون الدليل له من القوة بقدر قوة الظواهر المتروكة وأقوى منها وليس لهم دليل، وقياسهم فاسد فإنه طردي لا معنى فيه، وانتفاء الحكم في سائر المأكولات لانتفاء المقتضى لا لكونه مأكولاً، فلا أثر لكونه مأكولاً ووجوده كعدمه.
ومن العجب أن مخالفينا في هذه المسألة أوجبوا الوضوء بأحاديث ضعيفة تخالف الأصول، فأبو حنيفة أوجبه بالقهقهة في الصلاة دون خارجها بحديث من مراسيل أبي العالية، ومالك والشافعي أوجباه بمس الذكر بحديث مختلف فيه معارض بمثله دون مس بقية الأعضاء، وتركوا هذا الحديث الصحيح الذي لا معارض له مع بعده عن التأويل وقوة الدلالة فيه لمخالفته لقياس طردي(9).
المفتي: الشيخ الدكتور ياسر ابن النجار الدمياطي، مؤلف موسوعة الفقه على المذاهب الأربعة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه أبو داود(192) والترمذي(80) والنسائي(1/108) وابن ماجة(4/278) وابن حبان في صحيحه(1124) وابن خزيمة في صحيحه(1/28) وابن الجارود في المنتقى(24) والبيهقي(1/155) وغيرهم وصححه الألباني في صحيح أبي داود(177).
(2) رواه الدارقطني(1/151) مرفوعا ورواه البيهقي(1/261). تلخيص الحبير(158).
(3) بدائع الصنائع(1/130،131) والمجموع (2/69،70) والمهذب(1/24) وروضة الطالبين(1/72) وكفاية الأخيار(1/36) والإنصاف(1/216).
(4) المجموع(2/70) وروضة الطالبين(1/72) وشرح مسلم(4/45).
(5) رواه مسلم(360).
(6) رواه أبو داود(184) والترمذي(81) وابن ماجة(494) وأحمد(4/303) وابن حبان في صحيحه(3/310) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي(169).
(7) قال ابن الأثير في النهاية(3/317): الغمر بالتحريك: الدسم والزهومة من اللحم، كالوضرِ من السمن.
(8) رواه الترمذي(1859،1860) والنسائي في الكبرى(4/203) وابن ماجه(3297) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه(2666) من حديث أبي هريرة والسيدة فاطمة بنت النبي ﷺ.
(9) المغني(1/240،244) وتنقيح التحقيق(1/71) وكشاف القناع(1/130) والإنصاف (1/216) والأوسط(1/138،142).
الفتوى بصيغة فيديو:
https://youtu.be/Y5ZlvkbpcTc