هل النية في الوضوء فرض أم سنة؟
الفتوى رقم (78)
هل النية في الوضوء فرض أم سنة؟
السؤال:
هل يصح الوضوء دون نية الوضوء؟ أم أن النية فرض ولا يصح الوضوء إلا بها؟
الجواب:
بسم الله والحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله أما بعد:
اختلف أهل العلم رحمهم الله في حكم النية في الوضوء، هل هي فرض لا يصح الوضوء إلا بها؟ أم أنها سنة يصح الوضوء بدونها ؟
على قولين:
القول الأول : ذهب جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة –وهذا القول هو الصحيح- إلى أن النية فرض من فروض الوضوء وشرط من شرائطه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: 5].
والإخلاص: هو عمل القلب وهو النية والأمر به يقتضِي الوجوب .
لقول النبي ﷺ: «إنما الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»(1)؛ لأن لفظةٌ «إنما» للحصر، وليس المراد صورة العمل، فإنها توجد بلا نية، وإنما المراد أن حكم العمل لا يثبت إلا بنية.
وقول النبي ﷺ: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى»(2) وهذا لم ينو الوضوء فلا يكون له.
قالوا: والمراد بالحديث لا يكون العمل شرعياً يتعلق به ثواب وعقاب إلا بنية، ولأن الوضوء طهارة من حدث تستباح به الصلاة فلم يصح بلا نية كالتيمم، ولأن الوضوء عبادة ذات أركان فوجبت فيها النية كالصلاة، وينوي المتوضئ رفع الحدث، أو استباحة مفتقر إلى طهر ـ كالصلاة والطواف ومس المصحف ـ أو أداء فرض الوضوء.
القول الثاني: ذهب الحنفية إلى أن النية في الوضوء سنة، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة:6]. فأمر بالغسل والمسح مطلقاً عن شرط النية، ولا يجوز تقيد المطلق إلا بدليل.
والآية تقضيِ بجواز الصلاة بوجود الغسل سواء قارنته النية أو لم تقارنه؛ وذلك لأن الغسل اسم شرعي مفهوم المعنى في اللغة وهو إمرار الماء على العضو وليس هو عبارة عن النية؛ فمن شرط فيه النية فهو زائد في النص.
وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ [النساء: 43].
قال الكاساني رحمه الله: نهى الجنب عن قربان الصلاة إذا لم يكن عابر سبيل إلى غاية الاغتسال مطلقاً عن شرط النية، فيقتضي انتهاء حكم النهي عند الاغتسال المطلق، وعنده لا ينتهي إلا عند اغتسال مقرون بالنية، وهذا خلاف الكتاب، ولأن الأمر بالوضوء لحصول الطهارة؛ لقوله تعالى في آخر الآية:
﴿ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ﴾ [النساء:6]، وحصول الطهارة لا يقف على النية، بل على استعمال المطهر في محل قابل للطهارة والماء مطهر؛ لما روى عن النبي ﷺ: «الْمَاءُ طَهُورٌ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»، وقال تعالى: ﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً ﴾ [الفرقان:48]، والطهور اسم للطاهر في نفسه المطهر لغيره، والمحل قابل على ما عرف، وبه تبين أن الطهارة عمل الماء خلقة وفعل اللسان فضل في الباب، حتى لو سال عليه المطر أجزأه عن الوضوء والغسل، فلا يشترط لهما النية إذ اشتراطها؛ لاعتبار الفعل الاختياري، وبه تبين أن اللازم للوضوء معنى الطهارة، ومعنى العبادة فيه من الزوائد، فإن اتصلت به النية يقع عبادة، وإن لم يتصل به لا يقع عبادة لكنه يقع وسيلة إلى إقامة الصلاة؛ لحصول الطهارة كالسعي إلى الجمعة.أهـ
قال ابن رشد رحمه الله: وسبب اختلافهم -أي الحنفية مع الجمهور- تردد الوضوء بين أن يكون عبادة محضة، أعني: غير معقوله المعنى، وإنما يقصد بها القربة فقط، كالصلاة وغيرها، وبين أن يكون عبادة معقوله المعنى، كغسل النجاسة، فإنهم لا يختلفون أن العبادة المحضة مفتقرة إلى النية، والعبادة المفهومة المعنى غير مفتقرة إلى النية، والوضوء فيه شبه من العبادتين، ولذلك وقع الخلاف فيه وذلك أنه يجمع عبادة ونظافة والفقه أن ينظر بأيهما هو أقوى شبهاً فيلحق به(3).
وقال الإمام الجويني رحمه الله: وقد اشتملت آية الوضوء على بيان بالغ فيه فليتخذها أهل الزمان(4) مرجعهم في أصل الباب، وسيتلى القرآن إلى فجر القيامة، ثم الذي يقتضي الزمان الخالي عن الفقهاء وناقلي المذاهب أن النية لا تجب على المتوضئ؛ إذ ليس لها ذكر في الكتاب ولم ينقل الوضوء نقل القرب التي شرعت مقصوده للتقرب إلى الله، بل نقلت نقل الذرائع والمقدمات التي يقصد بها غيرها، فليس في نقله المطلق على الاستفاضة والتواتر إشعار بالنية، وليس في كتاب الله ما يضمنها وكذلك القول في التيمم.
فإن قيل: التيمم هو القصد، فهلا أشعر لفظه بالنية؟
قلنا: هو بمعنى القصد، ولكنه مربوط بالصعيد فيجب، من مقتضاه القصد إلى التراب.
فهذا حكم النية في الزمان العاري عن ذكر الأدلة على اشتراط النية(5).
وقال الإمام ابن المنذر رحمه الله: وقد اختلف أهل العلم فيمن توضأ وهو لا ينوي بوضوءه الطهارة، فقالت طائفة: لا يجزيه، كذلك قال الشافعي وربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور، وليس بين الوضوء والتيمم عندهم في ذلك فرق.
وفرقت طائفة بين الوضوء والتيمم، فقالت: يجزي الوضوء بغير نية ولا يجزي التيمم إلا بنية، هذا قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي، قال الثوري: إذا علمت رجلا التيمم فلا يجزيك أن تصلي بذلك التيمم، إلا أن تكون نويت أنك تيمم لنفسك فإذا علمته الوضوء أجزأك.
وفيه قول ثالث حكي عن الأوزاعي أنه قال في الرجل يعلم الرجل التيمم وهو لا ينوي أن يتيمم لنفسه إنما علمه ثم حضرت الصلاة قال: يصلي على تيممه كما أنه توضأ هو لا ينوي كان طاهرً،ا هذه حكاية أبي المغيرة عنه، وبه قال الحسن بن صالح.
وحكى الوليد بن مسلم الأوزاعي أنه قال: لا يجزيه في التيمم ويجزيه في الوضوء، وحكى الوليد مثله عن مالك والثوري.
قال أبو بكر: أما حكايته عن الثوري فكما حكى لموافقته حكاية الأشجعي والعدني وعبد الرزاق والفاريابي عنه، وأما ما حكاه عن مالك فما رواه أصحاب مالك عنه ابن وهب وابن القاسم أصح والله أعلم.
قال أبو بكر: دل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنية) لمَّا عم جميع الأعمال ولم يخص منها شيئًا أن ذلك في الفرائض والنوافل، ثم بين تصرف الإرادات فقال: (من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه)، فغير جائز أن يكون مؤديًا إلى الله ما فرض عليه من دخل الماء يعلم آخر السباحة بدرهم أخذه أو مريد للتبريد أو التلذذ غير مريد لتأدية فرض؛ لأنه لم يرد الله قط بعمله، قال الله: (ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها).
قال قائل: إن من قصد درهمًا أو دينارًا ليعلم آخر السباحة لا يقصد غير ذلك مؤديًا فرضًا لله عليه في الطهارة يخالف كتاب الله وسنة رسوله مع أن المناقضة لا تفارقه حيث أوجب النية في التيمم وأبطلها في الوضوء، والخبر الذي به يوجب النية في التيمم هو الذي أوجب النية في الوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم وسائر الأعمال، وقد ذكرت باقي الحجج في هذا الباب في غير هذا الكتاب(6) .
وقال أيضاً: وإذا توضأ طهارة من حدث أو طهارة لصلاة فريضة أو نافلة أو قراءة أو صلاة على جنازة فله أن يصلي به المكتوبة في قول الشافعي وأبي عبيد وإسحاق وأبي ثور وغيرهم من أصحابنا، وكذلك نقول(7).
المفتي: الشيخ الدكتور ياسر ابن النجار الدمياطي، مؤلف موسوعة الفقه على المذاهب الأربعة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه البخاري(1).
(2) رواه البخاري (1).
(3) رد المحتار(1/322) والبدائع (1/82/84) وأحكام القرآن للجصاص(3/335/337) وحاشية الدسوقي(1/151) وبداية المجتهد(1/27) والمجموع(1/375) ومغني المحتاج(1/147) وكفاية الأخيار(65) والمغني(1/135) وكشاف القناع(1/85) ومنار السبيل(1/34) وتفسير ابن كثير(2/24) وتفسير القرطبي(3/357) وأحكام القرآن لابن العربي(2/57).
(4)أي الزمان الخالي من العلماء ودروس التفاصيل والأدلة.
(5) غياث الأمم ص(512).
(6)الأوسط(1/369، 3714).
(7) الأوسط(1/371).
الفتوى بصيغة فيديو: https://youtu.be/ks9H94AbNWc