هل يُسن تكرار مسح الرأس ثلاث مرات
الفتوى رقم (75)
هل يُسن تكرار مسح الرأس ثلاث مرات
السؤال:
هل يسن للمتوضئ أن يمسح رأسه ثلاث مرات كأعضاء الوضوء الأخرى أم لا؟
الجواب:
بسم الله والحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله أما بعد:
اختلف أهل العلم في المسح على الرأس، هل يُسن للمتوضئ أن يمسح رأسه ثلاث مرات؟ أم أن مسح الرأس مرة واحدة وأنه لا يسن تثليث مسح الرأس؟
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: ذهب الحنفية والمالكية والإمام أحمد في المشهور عنه وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي إلى أنَّ مسح الرأس يكون مرة واحدة؛ ولأنه بالتكرار يصير غسلاً والمأمور به المسح.
قال الحنابلة: لا يستحب تكرار مسح الرأس؛ لأن أكثر من وصف وضوء النبي ﷺ ذكر أنه مسح رأسه مرة واحدة، وحكايتهم لوضوء النبي ﷺ إخبار عن الدوام، ولا يداوم إلا على الأفضل الأكمل، ولأنه مسح في طهارة، فلم يستحب تكراره، كالمسح في التيمم، والمسح على الجبيرة وسائر المسح.
قال أبو داود رحمه الله: أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة، فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، وقالوا فيها: ومسح برأسه، ولم يذكروا عدداً كما ذكروه في غيره.
وكذا قال ابن المنذر رحمه الله: إن الثابت عن النبي ﷺ في المسح مرة واحدة. ولأن المسح مبني على التخفيف فلا يقاس على الغسل المراد منه المبالغة في الإسباغ، ولأن العدد لو اعتبر في المسح لصار في صورة الغسل، إذ حقيقة الغسل جريان الماء.
وقد بالغ أبو عبيد رحمه الله فقال: لا نعلم أحداً من السلف استحب تثليث مسح الرأس إلا إبراهيم التيمي.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفيما قال نظر، فقد نقل ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أنس وعطاء وغيرهما وقد روى أبو داود من وجهين صحح أحدهما ابن خزيمة وغيره في حديث عثمان تثليث مسح الرأس والزيادة من الثقة مقبولة.
القول الثاني: ذهب الشافعية في المذهب وأحمد في رواية نصرها أبو الخطاب وابن الجوزي -وهذا القول هو الصحيح- إلى أنه يسن تثليث مسح الرأس.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: «وَأُحِبُّ لو مَسَحَ رَأْسَهُ ثَلَاثًا وَوَاحِدَةً تُجْزِئُهُ».
قال الإمام النووي رحمه الله: مذهبا المشهور الذي نص عليه الشافعي رضي الله عنه في كتبه وقطع به جماهير الأصحاب أنه يستحب مسح الرأس ثلاثاً كما يستحب تطهير باقي الأعضاء. ثم قال: واحتج الشافعي والأصحاب رحمهم الله بأحاديث وأقيسة:
أحدها: (وهو الذي اعتمده الشافعي) حديث عثمان رضي الله عنه أن النبي ﷺ: «تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا» رواه مسلم(1) ووجه الدلالة منه قوله: توضأ يشمل المسح والغسل وقد منع البيهقي وغيره الدلالة من هذا؛ لأنها رواية مطلقة وجاءت الروايات الثابتة في الصحيح المفسرة بأن غسل الأعضاء ثلاثاً ثلاثاً ومسح الرأس مرة، فصرحوا بالثلاث في غير الرأس، وقالوا في الرأس: ومسح برأسه ولم يذكروا عدداً، ثم قالوا بعده: ثم غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً، وجاءت في روايات في الصحيح ثم غسل يديه ثلاثاً ثم مسح برأسه مرة ثم غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً، فلم يبق فيه دلالة.
الحديث الثاني: «عن عثمان رضي الله عنه أنه توضأ فمسح على رأسه ثلاثاً وقال: رأيت رسول الله ﷺ توضأ هكذا»(2) رواه أبو داود بإسناد حسن، وقد ذكر أيضاً الشيخ أبو عمرو بن الصلاح أنه حديث حسن وربما ارتفع من الحسن إلى الصحة بشواهده وكثرة طرقه، فإن البيهقي وغيره رووه من طرق كثيرة غير طريق أبي داود.
الحديث الثالث: «عن علي رضي الله عنه أنه توضأ فمسح رأسه ثلاثاً ثم قال: رأيت رسول الله ﷺ فعل» رواه البيهقي من طرق وقال: أكثر الرواة رووه عن علي رضي الله عنه دون ذكر التكرار. قال: وأحسن ما روي عن علي رضي الله عنه فيه ما رواه عنه ابنه الحسن بن علي رضي الله عنهما فذكره بإسناده عنه «وذكر مسح الرأس ثلاثاً وقال: هكذا رأيت رسول الله ﷺ يتوضأ»(3) وإسناده حسن.
وأما الأقيسة فقالوا: أحد أعضاء الطهارة فسن تكراره كغيره. وقالوا: ولأنه إيراد أصل على أصل، فسن تكراره كالوجه. ثم قال: أما أدلة القائلين بمسحة واحدة فأجاب أصحابنا عنها بأجوبة كثيرة أحسنها: أنه نقل عن رواتها المسح ثلاثاً وواحدة كما سبق فوجب الجمع بينهما فيقال الواحدة لبيان الجواز والثنتان لبيان الجواز وزيادة الفضيلة على الواحدة، والثلاث للكمال والفضيلة، ويؤيد هذا أنه روي الوضوء على أوجه كثيرة، فروي على هذه الأوجه المذكورة، وروي غسل بعض الأعضاء مرة وبعضها مرتين، وروي على غير ذلك، وهذا يدل على التوسعة وأنه لا حرج كيف توضأ على أحد هذه الأوجه، ولم يقل أحد من العلماء: يُستحبُ غسلُ بعض الأعضاء ثلاثاً وبعضها مرتين مع أن حديثه هكذا في الصحيحين، فعلم بذلك أن القصد بما سوى الثلاث ببيان الجواز، فإنه لو واظب ﷺ على الثلاث لظُنَّ أنه واجبٌ، فبين في أوقات الجواز بدون ذلك وكرر ببيانه في أوقات وعلى أوجه؛ ليستقر معرفته، ولا ختلاف الحاضرين الذين لم يحضروا الوقت الآخر.
فإن قيل: فإذا كان الثلاث أفضل فكيف تركه في أوقات؟ فالجواب ما قدمناه أنه قصد ﷺ البيان، وهو واجب عليه ﷺ فثوابه فيه أكثر، وكان البيان بالفعل آكد وأقوى في النفوس وأوضح من القول.
وأما أبي داود وغيره فجوابه من وجهين:
أحدهما: أنه قال: الأحاديث الصحاح وهذا حديث حسن غير داخل في قوله.
والثاني: أن عموم إطلاقه مخصوص بما ذكرناه من الأحاديث الحسان وغيرها.
وأما الجواب عن قياسهم على التيمم ومسح الخف فهو أنهما رخصة؛ فناسب تخفيفها؛ والرأس أصل؛ فإلحاقه بباقي أعضاء الوضوء أولى، وأما قولهم تكراره يؤدي إلى غسله، فلا نسلمه، لأن الغسل جريان الماء على العضو، وهذا لا يحصل بتكرار المسح ثلاثاً، وقد أجمع العلماء على أن الجنب لو مسح بدنه بالماء وكرر ذلك لا ترتفع جنابته بل يشترط جري الماء على الأعضاء(4) اهـ
المفتي: الشيخ الدكتور ياسر ابن النجار الدمياطي، مؤلف موسوعة الفقه على المذاهب الأربعة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه مسلم (230).
(2)رواه أبو داود (107، 110) والبيهقي في الكبرى (1/63) وقال الشيخ الألباني /في صحيح أبي داود (98): حسن صحيح، وقال في تمام المنة (91) قد صح من حديث عثمان ت أن النبي ﷺ مسح رأسه ثلاثاً أخرجه أبو داود بسندين حسنين وله إسناد ثالث حسن أيضاً وقد تكلمت على هذه الأسانيد بشيء من التفصيل في صحيح أبي داود (رقم95، 98) وقد قال الحافظ في الفتح: وقد روى أبو داود من وجهين صحح أحدهما ابن خزيمة وغيره في حديث عثمان تثليث مسح الرأس والزيادة من الثقة مقبولة، وذكر في التلخيص أن ابن الجوزي مال في (كشف المشكل) إلى تصحيح التكرار.
قلت: وهو الحق لأن رواية المرة الواحدة وإن كثرت لا تعارض رواية التثليث إذ الكلام في أنه سنة ومن شأنها أن تفعل أحياناً وهو اختيار الصنعاني في سبل السلام أهـ /.
(3) أخرجه البيهقي في الكبرى (1/63).
(4) الاختيار (1/7) والهداية (1/13) والدر المختار (1/213) وبداية المجتهد (1/33) والتاج والإكليل (1/261) وموهب الجليل (1/52) وأحكام القرآن لابن العربي (2/67) والمجموع (1/495/500) وشرح المملى على المنهاج (1/53) وفتح الباري (1/312/313) والأم (1/26) والمغني (1/159/161) وكشاف القناع (1/100/101) والإنصاف (1/163) والتحقيق لابن الجوزي (1/112) وسبل السلام (1/43) ونبل الأوطار (1/196) وتفسير القرطبي (3/460) والأوسط (1/394/397) وشرح مسلم (3/92) ومعونة آولى النهى (1/291/298).
الفتوى بصيغة فيديو:
https://youtu.be/7VmEJbRUAJQ