الماء المختلط بنجاسة ولم يتغير لونه ولا طعمه ولا رائحته
الفتوى رقم (15)
الماء المختلط بنجاسة ولم يتغير لونه ولا طعمه ولا رائحته
السؤال:
هل يجوز استعمال الماء الذي خالطته نجاسة ولم يتغير لونه ولا ريحه ولا طعمه؟
الجواب:
بسم الله والحمد لله وصلّى الله وسلم على رسول الله أما بعد:
اختلف الفقهاء في حكم الماء الذي خالطته نجاسة ولم يتغير أحد أوصافه لونه أو طعمه أو رائحته على قولين:
القول الأول –وهو الصحيح-: أنه طاهر سواء أكان كثيرًا أم قليلاً، وهذه رواية عن الإمام مالك وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد اختارها طائفة من أصحابه ونصرها ابن عقيل واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وبه قال بعض الشافعية كابن المنذر والغزالي والروياني(1).
والأصل في ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قيل له: أَنَتَوَضَّأُ من بِئْرِ بُضَاعَةَ؟ وَهِيَ بِئْرٌ يُطْرَحُ فيها الْحِيَضُ وَلَحْمُ الْكِلَابِ وَالنَّتْنُ فقال رسول الله ﷺ: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»(2).
وهذا اللفظ عام في القليل والكثير، وهو عام في جميع النجاسات (3).
قال الدسوقي رحمه الله: إنّ الماء اليسير وهو ما كان قدر آنية الوضوء أو الغسل فما دونهما إذا حلت فيه نجاسة قليلة كالقطرة ولم تغيره فإنه يكره استعماله في رفع حدث أو في حكم خبث ومتوقف على طهور كالطهارة المسنونة والمستحبة.
وأما استعماله في العادات فلا كراهة فيه، فالكراهة خاصة بما يتوقف على طهور.
ثم قال: الحاصل أن الكراهة مقيده بقيود سبعة:
1- أن يكون الماء الذي حلت فيه النجاسة يسيرًا.
2- وأن تكون النجاسة التي حلت فيه قطرة فما فوقها.
3- وأن لا تغيره.
4- وأن يوجد غيره
5- وأن لا يكون له مادة كبئر.
6- وأن لا يكون جاريًا.
7- وأن يراد استعماله فيما يتوقف على طهور كرفع حدث وحكم خبث وأوضية واغتسالات مندوبة.
فإن انتفى قيد منها فلا كراهة (4).
القول الثاني: فرق بين كون الماء قليلاً وبين كونه كثيرًا، فإن كان الماء قليلاً ينجس، وإن كان كثيًرا لا ينجس.
وإلى هذا ذهب الحنفية وهي الرواية الثانية عن الإمام مالك وهي المذهب عند الشافعية والمشهور عند الحنابلة(5).
اختلف أهل العلم رحمهم الله في الحد الذي يفصل بين الماء القليل والماء الكثير على ثلاثة أقوال:
القول الأول: وهو مذهب الحنفية أن الماء إن كان بحال يخلص بعضه إلى بعض -أي يتمازج الماء بعضه ببعضـ فهو قليل، وإن كان لا يخلص فهو كثير.
ثم اختلف أصحاب هذا القول في تفسير الخلوص.
قال الكاساني رحمه الله: اختلفوا في تفسير الخلوص، فاتفقت الروايات عن أصحابنا أنه يعتبر الخلوص بالتحريك، وهو أنه إن كان بحال لو حُرك طرف منه يتحرك الطرف الآخر فهو مما يخلص، وإنما اختلفوا في جهة التحريك، فروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه يعتبر التحريك بالاغتسال من غير عنف، وروى محمد عنه أنه يعتبر التحريك بالوضوء، وفي رواية باليد من غير اغتسال ولا وضو(6).
أما الغدير العظيم الذي لو حُرك طرف منه لا يتحرك الطرف الآخر إذا وقعت في أحد جانبيه نجاسة جاز الوضوء من الجانب الآخر؛ لأن الظاهر أن النجاسة لا تصل إليه (7).
واستدلوا بما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «إذا اسْتَيْقَظَ أحدكم من نَوْمِهِ فلا يَغْمِسْ يَدَهُ في الْإِنَاءِ حتى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فإنه لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»(8).
قالوا: فلو كان ماء الإناء لا ينجس بالغمس لم يكن للنهي لوهم النجاسة معنى، ومعلوم أن ماء الإناء إذا حركه آدمي من أحد طرفيه سرت الحركة فيه إلى الطرف الآخر.
وكذا الأخبار مستفيضة بالأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب مع أنه لا يتغير لونه ولا طعمه ولا ريحه(9).
القول الثاني: وهو مذهب الإمام مالك، ويرى أنه إن تغير لونه أو طعمه أو ريحه فهو قليل، وإن لم يتغير فهو كث(10).
القول الثالث: وهو مذهب الشافعية والحنابلة أن الماء إذا بلغ قلتين فهو كثير، وإلا فهو قليل.
واستدلوا على هذا بما رواه ابن عمر رضي الله عنه أن النبي ﷺ سُئِلَ عن الْمَاءِ يَكُونُ في الْفَلَاةِ من الأرض وما يَنُوبُهُ من السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ قال: فقال رسول الله ﷺ: «إذا كان الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لم يَحْمِلْ الْخَبَثَ» وفي رواية: «لم يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ»(11).
قال ابن قدامة رحمه الله: وتحديده بالقلتين يدل على أن ما دونهما ينجس، إذ لو استوى حكم القلتين وما دونهما لم يكن التحديد مفيدًا(12).
وقال الشيرازي رحمه الله: ولأن القلتين يمكن حفظه من النجاسة في الظروف والكثير لا يمكن حفظه من النجاسة فنجعل القلتين حدًا فاصلاً بينهما(13).
قال الحافظ رحمه الله: قوله «لم يَحْمِلْ الْخَبَثَ» معناه: لم ينجس بوقوع النجاسة فيه، كما فسر في الرواية الأخرى التي رواها أبو داود وابن حبان وغيرهما: «إذا بلغ الماء قلتين لم يتنجس» والتقدير لا يقبل النجاسة، بل يدفعها عن نفسه، ولو كان المعنى: أنه يضعف عن حمله لم يكن للتقيد للقلتين معنى ما دونهما أولى بذلك، وقيل: معناه لا يقبل حكم النجاسة كما في قوله تعالي: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ﴾[الجمعة: 5] أي: لم يقبلوا حكمها(14).
المفتي: الشيخ الدكتور ياسر النجار الدمياطي، مؤلف موسوعة الفقه على المذاهب الأربعة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بداية المجتهد (1/46) ومجموع الفتاوى (21/30/33) والمجموع (2/73) والمغني (1/50) وكفاية الأخيار (56) والإفصاح (1/37).
(2) صحيح: سبق تخريجه.
(3) مجموع الفتاوى (21/33).
(4) حاشية الدسوقي (1/70/71).
(5) مختصر القدوري (13) وبدائع الصنائع (1/250/253) وحاشية ابن عابدين (1/340) والمجموع (2/70/72) ومغني المحتاج (1/84/85) وبداية المجتهد (1/46) وكفاية الأخيار (56) والمغني (1/47) ومجموع الفتاوى (21/30) والإفصاح (1/37).
(6) بدائع الصنائع (1/252).
(7) بدائع الصنائع (1/253) مختصر القدوري (13).
(8) رواه مسلم (87).
(9) البدائع (1/251) مختصر القدوري (13).
(10) بداية المجتهد (1/46) وتحفة الفقهاء (1/56) والبدائع (1/250) ومجموع الفتاوى (21/30) والشرح الكبير (1/71).
(11) صحيح: رواه النسائي (1/46) وأبو داود (63، 64) والترمذي (67) وابن ماجه (517) وأحمد (2/27) والدارمي (731) والحاكم (1/224) وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، والبيهقي في الكبير (1/261) والدارقطني (1/19/20) وابن حبان صححه (1245) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (56) وحسنه النووي في المجموع (2/70) وقال الخطابي: ويكفي شاهدًا على صحته أن نجوم أهل الحديث صححوه وقالوا به واعتمدوه في تحديد الماء وهم القدوة وعليهم المعول في هذا الباب المجموع (2/76).
(12) المغني (1/52).
(13) المجموع (2/70).
(14) تلخيص الحبير (1/140).
الفتوى بصيغة فيديو: