هل يجوز المسح على الجوربين؟
الفتوى رقم (123)
هل يجوز المسح على الجوربين؟
السؤال:
هل هناك خلاف في حكم المسح على الجوارب؟
الجواب:
بسم الله والحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله أما بعد:
اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على جواز المسح على الجوربين في الجملة، وهو ما يلبسه الإنسان في قدميه، سواء كان مصنوعاً من الصوف أو القطن أو الكتان أو نحو ذلك، ووضعوا لجواز المسح على الجوربين شروطا اختلفوا فيها على قولين:
فذهب الإمام أبو حنيفة ومالك والشافعي إلى عدم جواز المسح على الجوربين إلا بشـرطين:
الأول: أن يكون الجوربان مجلدين، وهو الذي وضع الجلد أعلاه وأسفله؛ لأنهما يقومان مقام الخف في هذه الحالة.
الثاني: أن يكون الجوربان منعلين، أي لهما نعل وهي الجلدة أسفله.
وفي الحالتين لا يصل الماء إلى القدم؛ لأن الجلد لا يشف الماء، أما بدون هذين الشرطين فلا يجوز المسح عليهما؛ لأنهما لا يمكن متابعة المشي عليهما كالرقيقين، فإنهما إن كانا رقيقين يشفان الماء لا يجوز المسح عليهما بالإجماع كما يقول الإمام الكاساني.
قال الإمام الكاساني رحمه الله: وأما المسح على الجوربين فإن كانا مجلدين أو منعلين يجزيه بلا خلاف عند أصحابنا، وإن لم يكونا مجلدين ولا منعلين؛ فإن كانا رقيقين يشفان الماء لا يجوز المسح عليهما بالإجماع، وإن كانا ثخينين لا يجوز عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد يجوز.
وروي عن أبي حنيفة أنه رجع إلى قولهما في آخر عمره، وذلك أنه مسح على جوربيه في مرضه ثم قال لعوّاده: فعلتُ ما كنت أمنع الناس عنه. فاستدلوا به على رجوعه.
وعند الشافعي: لا يجوز المسح على الجوارب وإن كانت منعلة إلا إذا كانت مجلدة إلى الكعبين.
احتج أبو يوسف ومحمد بحديث المغيرة بن شعبة ((أن النبي توضأ ومسح على الجوربين))، ولأن الجواز في الخف لدفع الحرج؛ لما يلحقه من المشقة بالنزع وهذا المعنى موجود في الجورب بخلاف اللفافة والمكعب؛ لأنه لا مشقة في نزعهما.
ولأبي حنيفة أن جواز المسح على الخفين ثبت نصًّا بخلاف القياس، فكل ما كان في معنى الخف في إمكان المشي عليه وإمكان قطع السفر به يلحق به، وما لا فلا، ومعلوم أن غير المجلد والمنعل من الجوارب لا يشارك الخف في هذا المعنى، فتعذر الإلحاق، على أن شرع المسح إن ثبت للترفيه لكن الحاجة إلى الترفيه فيما يغلب لبسه، ولبس الجوارب مما لا يغلب فلا حاجة فيها إلى الترفيه، فبقي أصل الواجب بالكتاب وهو غسل الرجلين.
وأما الحديث فيحتمل أنهما كانا مجلدين أو منعلين، وبه نقول ولا عموم له؛ لأنه حكاية حال ألا يرى أنه لم يتناول الرقيق من الجوارب.
وأما الخف المتخذ من اللبد فلم يذكره في ظاهر الرواية، وقيل: إنه على التفصيل والاختلاف الذي ذكرنا، وقيل: إن كان يطيق السفر جاز المسح عليه وإلا فلا، وهذا هو الأصح(1).
وذهب الإمام أحمد والصاحبان من الحنفية أبو يوسف ومحمد -وهذا القول هو الصحيح-، وقيل إن أبا حنيفة رحمه الله رجع إلى قولهما في آخر عمره إلى أنه يجوز المسح على الجورب لكن بشرطين:
الأول: أن يكون صفيقاً -ثخيناً- لا يبدو منه شيء من القدم فلا يصف جلد البشرة.
الثاني: أن يمكن متابعة المشي فيه، وأن يثبت بنفسه من غير شد بالعرى ونحوها.
وعن الإمام أحمد أيضاً قال: يمسح عليه إن ثبت في القدم، وفي موضع قال: إن كان يمشي فيه فلا ينثني، فلا بأس بالمسح عليه فإنه إذا انثنى ظهر موضع الوضوء.
واستدلوا على ذلك بما رواه المغيرة بن شعبة: «أن النبي ﷺ مَسَحَ على الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ»(2).
وهذا يدل على أن النعلين لم يكونا عليهما، لأنهما لو كانا كذلك لم يذكر النعلين، فإنه لا يقال: مسحت على الخف ونعله.
ولأن الجواز في الخف لدفع الحرج لما يلحقه من المشقة بالنزع وهذا المعنى موجود في الجورب.
ولأن الصحابة رضي الله عنهم مسحوا على الجوارب، قال الإمام أحمد: يذكر المسح على الجوربين عن سبعة أو ثمانية من أصحاب النبي ﷺ.
وقال ابن المنذر رحمه الله: ويروى إباحة المسح على الجوربين عن تسعة من أصحاب رسول الله ﷺ، علي وعمار وابن مسعود وأنس وابن عمر و البراء وبلال وابن أبي أوفى وسهل بن سعد رضي الله عنهم.
ولم يظهر في عصرهم مخالف فكان إجماعاً.
ولأنه ساتر لمحل الفرض يثبت في القدم فجاز المسح عليه كالنعل.
قال ابن قدامة رحمه الله: وقولهم: لا يمكن متابعة المشي فيه، قلنا: لا يجوز المسح عليه إلا أن يكون مما يثبت بنفسه، ويمكن متابعة المشي فيه، وأما الرقيق فليس بساتر.
وقد سئل أحمد عن جورب الخرق يُمسح عليه؟ فكره الخرق، ولعل أحمد كرهها؛ لأن الغالب عليها الخفة وأنها لا تثبت بأنفسها، فإن كانت مثل جورب الصوف في الصفاقة والثبوت فلا فرق، وقد قال أحمد في موضع: لا يجزئه المسح على الجروب، حتى يكون جورباً صفيقًا يقوم قائماً في رجله لا ينكسر مثل الخفين، إنما مسح القوم على الجوربين أنه كان عندهم بمنزلة الخف في رجل الرجل، يذهب فيه الرجل ويجيء(3).
قال المرداوي رحمه الله في الإنصاف: الجورب إذا كان خفيفاً يصف القدم أو يسقط منه إذا مشى لم يجز المسح عليه بلا نزاع(4).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: يجوز المسح على الجوربين إذا كان يمشي فيهما، سواء كانت مجلدة أو لم تكن في أصح قولي العلماء، ففي السنن: «أن النبي ﷺ مَسَحَ على جَوْرَبَيْهِ وَنَعْلَيْهِ»(5)، وهذا الحديث إذا لم يثبت، فالقياس يقتضي ذلك، فإن الفرق بين الجوربين والنعلين إنما هو كون هذا من صوف وهذا من جلد، ومعلوم أن مثل هذا الفرق غير مؤثر في الشريعة، فلا فرق بين أن يكون جلوداً أو قطناً أو كتاناً أو صوفاً، كما لم يفرق بين سواد اللباس في الإحرام وبياضه ومحظوره ومباحه، وغايته أن الجلد أبقى من الصوف: فهذا لا تأثير له، كما لا تأثير لكون الجلد قوياً، بل يجوز المسح على ما يبقى وما لا يبقى.
وأيضاً فمن المعلوم أن الحاجة إلى المسح على هذا كالحاجة إلى المسح على هذا سواء، ومع التساوي في الحكمة والحاجة يكون التفريق بينهما تفريقاً بين المتماثلين، وهذا خلاف العدل والاعتبار الصحيح الذي جاء به الكتاب والسنة وما أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله، ومن فرق بكون هذا ينفذ الماء منه وهذا لا ينفذ منه، فقد ذكر فرقاً طردياً عديم التأثير.
ولو قال قائل يصل الماء إلى الصوف أكثر من الجلد فيكون المسح عليه أولى؛ للصوق الطهور به أكثر كان هذا الوصف أولى بالاعتبار من ذلك الوصف وأقرب إلى الأوصاف المؤثرة، وذلك أقرب إلى الأوصاف الطردية، وكلاهما باطل وخروق الطعن لا تمنع جواز المسح.
ولو لم تستر الجوارب إلا بالشد، جاز المسح عليها على الصحيح(6).
وقال أيضاً: وجورب الخرق كجورب الصوف إذا كان صفيقا حيث يمشى في مثله عادة وإن كان رقيقا يتخرق في اليومين أو الثلاثة أو لا يثبت بنفسه لم يمسح عليه لأن في مثله لا يمشى فيه عادة ولا يحتاج إلى المسح عليه(7).
وقال ابن المنذر رحمه الله: المسح على الجوربين قال به عطاء بن أبي رباح والحسن وسعيد بن المسيب كذلك قالا إذا كانا صفيقين، وبه قال النخعي وسعيد بن جبير والأعمش وسفيان الثوري والحسن بن صالح وابن المبارك وزفر وأحمد وإسحاق.
قال أحمد: قد فعله سبعة أو ثمانية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال إسحاق: مضت السنة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين في المسح على الجوربين لا اختلاف بينهم في ذلك، وقال أبو ثور: يمسح عليهما إذا كانا يمشي فيهما، وكذلك قال يعقوب ومحمد إذا كانا ثخينين لا يشفان، واحتج بعض من رأى المسح على الجوربين بحديث المغيرة بن شعبة «أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على جوربيه ونعليه»، وأنكرت طائفة المسح على الجوربين وكرهته، وممن كره ذلك ولم يره مالك بن أنس والأوزاعي والشافعي والنعمان، وهذا مذهب عطاء وهو آخر قوليه، وبه قال مجاهد وعمرو بن دينار والحسن بن مسلم(8).
وقال الإمام ابن رشد رحمه الله: واختلفوا في المسح على الجوربين.
وسبب اختلافِهم اختلافُهم في صحة الآثار الواردة عنه صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الجوربين والنعلين، واختلافهم أيضًا هل يقاس على الخف غيره أم هي عبادة لا يقاس عليها ولا يتعدى بها محلها؟
فمن لم يصح عنده الحديث أو لم يبلغه ولم ير القياس على الخف قصر المسح عليه، ومن صح عنده الأثر وجواز القياس على الخف أجاز المسح على الجوربين(9).
المفتي: الشيخ الدكتور ياسر ابن النجار الدمياطي، مؤلف موسوعة الفقه على المذاهب الأربعة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البدائع(1 /46 /47).
(2) رواه أبو داود (159) والترمذي(99) وقال: حسن صحيح والنسائي في الكبرى(130)
وابن ماجه(559) وابن خزيمة في صحيحه(1 /99) وابن حبان في صحيحه(4/167)
والبيهقي في الكبرى(1 /283) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه(453).
(3) البدائع(1 /46 /47) ورد المحتار(1 /451) والبحر الرائق(1 /191)
والتاج والإكليل(1 /320) والخلاصة الفقهية(1 /45) والقوانين الفقهية(1 /30)
والاستذكار(1 /222) والمجموع(1 /564) والمغني(1 /376 /377) والإفصاح(1 /101)
وعون المعبود(1 /187) وتحفة الأحوذي(1 /278 /283).
(4) الإنصاف(1 /182).
(5)صحيح: رواه أبو داود(159) والترمذي(99) وقال: حسن صحيح والنسائي في الكبرى(130) وابن ماجه(559) وابن خزيمة في صحيحه(1 /99) وابن حبان في صحيحه (4/167) والبيهقي في الكبرى(1 /283) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه(453).
(6) مجموع الفتاوى(21 /214 /215).
(7) شرح العمدة(1/251).
(8) الأوسط(1/464، 465).
(9) بداية المجتهد(1/14).
الفتوى بصيغة فيديو:
https://youtu.be/a5oh6HjwFuI