هل الدم طاهر أم نجس؟
الفتوى رقم(182)
هل الدم طاهر أم نجس؟
السؤال:
هل الدم طاهر أم نجس؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
اتفق الفقهاء على نجاسة الدم، وقد استدلوا على ذلك بقول الله تعالى﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ﴾ [المائدة:3]، وبقوله تعالى﴿إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً﴾ [الأنعام :145]، وبحديث أسماء رضي الله عنها أنها قالت: «جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلى النبي ﷺ فقالت: إِحْدَانَا يُصِيبُ ثَوْبَهَا من دَمِ الْحَيْضَةِ كَيْفَ تَصْنَعُ بِهِ؟ قال: تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ تَنْضَحُهُ ثُمَّ تُصَلِّي فيه»(1).
قال الإمام النووي رحمه الله: وفيه -أي في هذا الحديث- أن الدم نجس بإجماع المسلمين(2).
وقال أيضاً: والدلائل على نجاسة الدم متظاهرة، ولا أعلم فيه خلافاً عن أحد من المسلمين إلا ما حكاه صاحب الحاوي عن بعض المتكلمين أنه قال: هو طاهر، ولكن المتكلمين لا يعتد بهم في الإجماع(3).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفيه من الفوائد -أي حديث أسماء هذا- أن دم الحيض كغيره من الدماء في وجوب غسله(4).
وقال أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله: المعنى المقصود إليه بهذا الحديث
–أي: حديث أسماء– في الشريعة هو غسل دم الحيض من الثوب إذا أصابه، والخبر بأنه يجب غسله لنجاسته وحكم كل دم كدم الحيض، إلا أن قليل الدم متجاوز عنه؛ لشرط الله عز وجل في نجاسة الدم أن يكون مسفوحاً، فحينئذ فهو رجس والرجس النجاسة، وهذا إجماع من المسلمين أن الدم المسفوح رجس نجس، إلا أن المسفوح وإن كان أصله الجاري في اللغة فإن المعنى فيه في الشريعة الكثير؛ إذ القليل لا يكون جارياً مسفوحاً، فإذا سقطت من الدم الجاري نقطة من ثوب أو بدن لم يكن حكمها حكم المسفوح الكثير، وكان حكمها حكم القليل، ولم يلتفت إلى أصلها في اللغة(5).
وقد نقل الإجماع على نجاسة الدم عدد كبير من أهل العلم غير ما ذكرتهم وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: قال أحمد: القيح والصديد والمدة عندي أسهل من الدم الذي ليس فيه شك ـ يعني في نجاسته ـ.
وسئل –أي: الإمام أحمد– القيح والدم عندك سواء؟ فقال: الدم لم يختلف الناس فيه والقيح قد اختلف الناس فيه(6).
وقال ابن حزم رحمه الله: واتفقوا على أن الكثير من الدم أي دم كان، حاشا دم السمك وما لا يسيل دمه، نجس(7).
وقال ابن العربي المالكي رحمه الله: اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به، وقد عينه الله ـ ها هنا مطلقاً، وعينه في سورة الأنعام بالمسفوح وحمل العلماء هاهنا المطلق على المقيد إجماعاً(8).
وقال الإمام القرطبي رحمه الله: اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس(9).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: والدم نجس اتفاقاً(10).
وقال ابن قدامة رحمه الله: الدم نجس ولا نعلم فيه خلافاً(11).
وقال بدر الدين العيني رحمه الله: مما يستنبط منه -أي: من الحديث- جواز إزالة النجاسة بغير الماء، فإن الدم نجس وهو إجماع المسلمين، وإن إزالة النجاسة لا يشترط فيها العدد بل المراد الانقاء(12).
وقال ابن عابدين رحمه الله نقلاً عن السراج الهندي: إذا استاك للصلاة ربما يخرج دم وهو نجس بالإجماع وإن لم يكن ناقضاً عند الشافعي(13).
ومما استدل به أهل العلم أيضاً على نجاسة الدم ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: «جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أبي حُبَيْشٍ إلى النبي ﷺ فقالت: يا رَسُولَ اللَّهِ إني امْرَأَةٌ استحاض فلا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فقال: «لَا إنما ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ فإذا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ وإذا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي»(14).
قال النووي رحمه الله: في هذا الحديث الأمر بإزالة النجاسة وأن الدم نجس (15)
وأذكر هنا كلاماً نفيساً للشيخ عطية سالم رحمه الله قال: نوجه الإخوة طلبة العلم في الوقت الحاضر الذين يقولون إن الدم المسفوح طاهر، ويقولون: لا دلالة على نجاسته، يقال لهم: إن إجماع الأمة مدة أربعة عشرة قرناً على نجاسته، فيقولون: الإجماع لا حجة فيه ولا يصح، فإذا كانوا ينكرون الإجماع، فينبغي ألا يتكلم معهم في شيء، وعندما عرضت عليهم الآية الكريمة: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ﴾ [المائدة:3] قالوا: الدم كالميتة، حَرُمَ أكلُها، وكذلك الدم حَرُمَ أكلُه، وليس بنجس العين، يـقال لهم: إن دلالة الاقـتران -وهـي دلالة اقـتران الدم بالميتة- يدل على نجاسة الدم مثل نجاسة الميتة، فإن قالوا: وأين الدليل على نجاستها؟ قيل لهم:
إجماع المسلمين، وهذا الحديث بالذات –يقصد حديث مر النبي ﷺ على شاة يجرونها فقال: لو أخذتم إهابها؟ فقالوا: إنها ميتة – فالصحابة رضوان الله عليهم فهموا من كون الشاة ميتة أنها نجسة، فأصبحت دلالة التزام، وهي دلالة الموت على النجاسة، فقال النبي ﷺ: إنما حَرُمَ أكلُها، فالرسول ﷺ أقرهم على هذا الفهم بدليل أنه أجابهم بطهارة هذا النجس، وما أجابهم بعدم الأكل ولا أجابهم بشيء آخر، بل قال: «يطهره».
إذا: الميتة تنجست بموتها، ولما حرمت لنجاستها فالدم كذلك حرم لنجاسته، وذكرنا لهم صنيع البخاري ومسلم في حديث فاطمة بن حبيش–التي اُستحيضت –فهي: «سألت رسول الله ﷺ عن دم الحيض يصيب الثوب…» الحديث.
ذكره مسلم في باب النجاسات، وفي باب الحيض، ليدل على نجاسة الدم في باب النجاسات، ويدل على حكمه هناك في باب الحيض أو الاستحاضة، وكذلك البخاري وجميع أصحاب كتب السنة يذكرون حديثها في باب النجاسة للدلالة على نجاسة الدم، قالوا: هذه نجاسة لدم الحيض وهي خاصة، ولا تتعدى إلى غيره.
قلنا: أخبرونا عن المستحاضة حينما قال لها النبي ﷺ: «تحيضين ستة أيام أو سبعة أيام، ثم اغسلي عنك الدم وصلي» فقوله: «اغسلي عنك الدم» هل هو دم الحيض أم دم الاستحاضة؟ إن كان الغسل واقعاً على دم الحيض، فهي لا زالت في حيضها، وإن كان الحيض قد انتهى، فهي تغسل دم استحاضة ودم الاستحاضة عبارة عن عرق ينزف، وقد أمرت بغسله، فيكون نصاً في غسل الدم وإن كان غير دم الحيض.
ونأتي إلى كتاب المحلي لابن حزم وهو -كما نعلم- يأخذ بالظاهر فقد جاء بقاعدة من أعجب ما تكون!!قال: إنه ﷺ سئل عن دم مخصوص وهو دم الحيض، فكان الجواب بالأعم فقال:«اغسلي عنك الدم» فعمم في الجواب ولم يخصص كما كان السؤال مخصوصاً، قال:(ال) هنا للجنس، فهي سألت عن نوع من أنواع الدماء، وأجابها عن عموم الدم، فتكون جميع الدماء نجسة حتى دم السمك – وهذه مبالغة منه – وإن كان بعض المالكية يقول شيئًا من هذا، ولكن العموم أنها سألت عن دم الحيض، وكان من الممكن أن يقول لها: اغسليه، أو حتيه، فيكون الجواب بضمير يعود على المسئول عنه، ولكن كما قال ابن حزم ألغى السؤال في خصوص الدم وأجاب ب(ال) التي هي للعموم، فتستغرق جميع أنواع الدم.
وأيضاً أتينا إلى المجموع لابن تيمية رحمه الله فوجدناه يذكر نجاسة الدم في سبعة مواضع من المجموع، منها عند حديث غمس الذباب، وذكر أن العلة في تحريم الميتة احتباس الدم فيها، والدم نجس ويضر بصحة الإنسان، وذكر نجاسة الدم في سبعة مواطن من مجموع الفتاوى.
إذاً: كان الأمر على نجاسة الدم إلى عهد ابن تيمية طيلة سبعة قرون ومن بعده إلى اليوم،
ولم يقل أحد ممن يعتد برأيه في المذاهب الأربعة من أهل الاجتهاد: إن الدم المسفوح طاهر، ونقول: إن هذا الحديث نص في الموضوع، لأنهم فهموا أنها ميتة، وأنها قد تنجست لذلك وإن النجاسة قد انتقلت في جلدها فقالوا: «إنها ميتة» أي: إن جلدها نجس، والرسول ﷺ أقر ذلك منهم، وأجابهم على مقتضى ما فهموا وأرشدهم إلى ما يطهر هذا النجس من الماء والقرظ.
وقال في موضع أخر: المسفوح هو الذي يخرج بغزارة وبقوة، وغير المسفوح هو الدم الذي يكون باقياً في عروق الذبيحة بعد سلخها، وقد تظهر حمرة هذا الدم في المرق في أوائل الطبخ، وهذا معفو عنه.
ثم قال: أدلة من قال بعدم نجاسة الدم والجواب عنها:
الذين قالوا بطهارة الدم المسفوح قالوا: إنما حرم أكله ولم تحرم ملامست،ه ولا يدل ذلك على النجاسة، واستدلوا بقصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حينما صلى وجرحه ينزف دماً.
واستدلوا بقصة عمار والذي كان معه في الشعب، فأمره ﷺ أن يحرس ليلاً، وكان العدو قد وقعت به حادثة فتبعهم ليلاً فقام أحدهما يحرس ويصلي ويقرأ، فسمع العدو صوت القارئ فسدد السهم في الليل على الصوت فأصابه، فانتزع الحارس السهم ومضى في صلاته، إلى أن رمي بثلاثة أسهم، فأيقظ صاحبه سقوط الدم على وجهه، فقال: ما هذا؟ فأخبره فقال: هلا أخبرتني؟ قال: كنت أقرأ سورة فكرهت أن أقطعها –قيل: سورة الكهف- فقالوا: خرج منه الدم فلم يقطع صلاته، ولو كان نجساً لقطعها، وكذلك ما جاء في حق المستحاضة: (صلي ولو قطر الدم على الحصي) ولأنها لم تستطع إيقافه، لكن لا تقاس حالة الاضطرار على حاله السعة ترى عمر يترك الصلاة لجرحه، وهو يقول: لا حـظ في الإسـلام لمن تـرك الصـلاة! وكـذلك الـذي كـان يحـرس في الجـيش، ألا تـري
المجاهدين يجرحون ويصابون، بل تكون سيوفهم مليئة بالدماء، ويصلون صلاة الخوف وهم يحملون السلاح، فلا تقاس حالة الاضطرار في القتال على حالة السعة في السلم، والكلام في غير الضرورات، فلا مستند لهم فيما يقولون والله تعالى أعلم انتهى كلامه رحمه الله نقلاً من بلوغ المرام(8/4/12/6).
قلت: أما قضية أن الشهيد يدفن في النجاسة إذا قلنا إن الدم نجس، فإليك أقول أهل العلم في ذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله: ولعل ترك الغسل والصلاة على من قتله جماعة المشتركين إرادة أن يلقوا الله بكلومهم لما جاء فيه عن النبي ﷺ: إن ريح الكلم ريح المسك واللون لون الدم واستغنوا بكرامة الله لهم عن الصلاة لهم من التخفيف عمن بقي من المسلمين. انظر معرفة السنن والأثار(3/143) والمجموع(5/219).
وقال الإمام الكاساني رحمه الله في البدائع(1/324): فالنبي ﷺ لم يأمر بالغسل وبين المعنى وهو أنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دماً فلا يزال عنهم الدم بالغسل؛ ليكون شاهداً لهم يوم القيامة، وبه تبين أن غسل دم الشهيد من باب الكرامة وإن الشهادة جعلت مانعة من حلول نجاسة الموت كما في شهداء أحد أهـ.
وقد قال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه باب: ما يقع من النجاسات في السمن والماء ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «كل كَلم يَكْلَمُه المسلمُ في سبيل الله يكون يوم القيامة كهيئتها إذا طعنت تفجر دماً اللون لون الدم والعَرْفُ عَرْفُ المسك» قال ابن المنير السكندري في المتواري على تراجم أبواب البخاري(1/72): ووجه الاستدلال بحديث دم الشهداء أنه لما تغيرت صفته إلى صفة طاهر وهو المسك بطل حكم النجاسة فيه.
وقال العيني وهو يشرح هذا الحديث في عمدة القاري(3/164) وجه المناسبة في هذا أنه لما كان مبني الأمر في الماء بالتغير بوقوع النجاسة وأنه يخرج عن كونه صالحاً للاستعمال لتغير صفته التي خلق عليها أو رد له نظيراً بتغير دم الشهيد، فإن مطلق الدم نجس، ولكنه تغير بواسطة الشهادة في سبيل الله، ولهذا لا يغسل عنه دمه ليظهر شرفه يوم القيامة لأهل الموقف بانتقال صفته المذمومة إلى الصفة الممدوحة، حيث صار انتشاره كرائحة المسك فافهم فإن هذا المقدار كافٍ أهـ وانظر فتح الباري(1/411).
وقال الإمام الزركشي رحمه الله: عدم غسل الشهيد قيل دفعاً للحرج والمشقة، لكثرة الشهداء في المعترك، وقيل لأنه لما لم يُصَلًّ عليه لم يغسل، وقيل وهو الصحيح؛ لئلا يزول أثر العبادة المطلوب بقاؤها كما دل عليه حديث عبد الله بن ثعلبة. شرح الزركشي(1/335).
قلت: ويلزم مَنْ يقولُ بأن الدم طاهر وليس بنجس أنه يجوز كتابة القرآن بالدم وأن هذا ليس بحرام ولا يكفر بذلك على الرغم من أن السحرة يتقربون إلى الشياطين بالدم ونحوه هذا والله تعالى أعلى وأعلم.
المفتي: الشيخ الدكتور ياسر ابن النجار الدمياطي، مؤلف موسوعة الفقه على المذاهب الأربعة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)رواه البخاري(307) ومسلم(291).
(2)شرح مسلم(3/168).
(3)المجموع(2/514).
(4)فتح الباري(1/489).
(5)التمهيد(22/230) وانظر الاستذكار(1/331).
(6)شرح العمدة(1/105) وإغاثة اللهفان(1/151)
(7)مراتب الإجماع(1/19) والمحلي(1/102)
(8)أحكام القرآن(1/79)
(9)الجامع لأحكام القرآن(1/615)
(10)فتح الباري(1/420)
(11)المغني(1/285)
(12)عمدة القاري(3/281).
(13)رد المحتار(1/21)
(14)رواه البخاري(306) ومسلم(333)
(15)شرح مسلم(4/20) قلت: وقد نقل غير هؤلاء الإجماع على نجاسة الدم منهم ابن عرفة في تفسيره(2/506) والشنقيطي في أضواء البيان(2/399).
الفتوى بصيغة فيديو:
https://youtu.be/KY1_M5golJk
<iframe width=”727″ height=”409″ src=”https://www.youtube.com/embed/KY1_M5golJk” title=”YouTube video player” frameborder=”0″ allow=”accelerometer; autoplay; clipboard-write; encrypted-media; gyroscope; picture-in-picture” allowfullscreen></iframe>