ما حكم إسقاط الجنين؟
ما حكم إسقاط الجنين؟
السؤال:
ما حكم إسقاط الجنين قبل نفخ الروح وبعده؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
إسقاط الجنين لا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون بعد نفع الروح:
أجمع أهل العلم على تحريم إسقاط الحمل بعد نفخ الروح إن لم يكن في بقائه هلاك أمه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إسقاط الحمل حرام بإجماع المسلمين، وهو من الوأد الذي قال الله فيه: ﴿وَإِذَا المَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾ وقَدْ قَالَ تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾(1).
الحالة الثانية: أن يكون قبل نفخ الروح:
اختلف الفقهاء في حكم إسقاط الجنين قبل نفخ الروح فيه هل يجوز أم لا؟
فذهب الحنفية في المذهب والشافعية في الراجح عندهم واللخمي من المالكية وابن عقيل من الحنابلة إلى أنه يجوز إسقاط الجنين قبل نفخ الروح أي قبل مائة وعشرين يومًا.
قال الحنفية: يباح إسقاط الحمل قبل نفخ الروح فيه أي قبل أربعة أشهر ولو بلا إذن الزوج، وقيل: يلحقها إثم هنا إذا سقط بغير عذرها.
ففي “الخانية” من كتاب الكراهية: ولا أقول بأنه يباح الإسقاط مطلقًا، فإن المُحْرِمَ إذا كسَرَ بيض الصيد يكون ضامنًا؛ لأنه أصل الصيد، فلما كان يؤاخذ بالجزاء ثَمَّ فلا أقل من أن يلحقها إثم ههنا إذا أسقطت بغير عذر. اهـ
قالَ ابن نجيم رحمه الله: وينبغي الاعتماد عليه؛ لأن له أصلًا صحيحًا يقاس عليه، والظاهر أن هذه المسألة لم تنقل عن أبي حنيفة صريحة، ولذا يعبرون عنها بصيغة قالوا(2).
قال ابن عابدين: قال ابن وهبان: ومن الأعذار أن ينقطع لبنها بعد ظهور الحمل وليس لأبي الصبي ما يستأجر به الظئر ويخاف هلاكه. ونقل عن “الذخيرة” لو أرادت الإلقاء قبل مضي زمن ينفخ فيه الروح هل يباح لها ذلك أم لا؟ اختلفوا فيه، وكان الفقيه علي بن موسى يقول: إنه يكره، فإن الماء بعدما وقع في الرحم مآله الحياة فيكون له حكم الحياة كما في بيضة صيد الحرم، ونحوه في “الظهيرية”، قال ابن وهبان: فإباحة الإسقاط محمولة على حالة العذر، أو أنها لا تأثم إثم القتل. اه(3).
وأما الشافعية فقال الإمام الرملي رحمه الله: قال المحب الطبري: اختلف أهل العلم في النطفة قبل تمام الأربعين على قولين: قيل لا يثبت لها حكم السقط والوأد، وقيل لها حرمة ولا يباح إفسادها ولا التسبب في إخراجها بعد الاستقرار في الرحم، بخلاف العزل فإنه قبل حصولها فيه، قال الزركشي: وفي تعاليق بعض الفضلاء قال الكرابيسي: سألت أبا بكر بن أبي سعيد الفراتي عن رجل سقى جاريته شرابًا لتسقط ولدها فقال: ما دامت نطفة أو علقة فواسع له ذلك إن شاء الله تعالى. اهـ.
وقد أشار الغزالي إلى هذه المسألة في “الإحياء” فقال بعد أن قرر أن العزل خلاف الأولى ما حاصله: وليس هذا كالاستجهاض والوأد؛ لأنه جناية على موجود حاصل، فأول مراتب الوجود وقع النطفة في الرحم فيختلط بماء المرأة فإفسادها جناية، فإن صارت علقة أو مضغة فالجناية أفحش، فإن نفخت الروح واستقرت الخلقة زادت الجناية تفاحشًا، ثم قال: ويبعد الحكم بعدم تحريمه.
وقد يقال: أما حالة نفخ الروح فما بعده إلى الوضع فلا شك في التحريم، وأما قبله فلا يقال إنه خلاف الأولى بل محتمل للتنزيه والتحريم، ويقوى التحريم فيما قرب من زمن النفخ؛ لأنه حريمه، ثم إن تشكل في صورة آدمي وأدركته القوابل وجبت الغرة، نعم لو كانت النطفة من زنا فقد يتخيل الجواز، فلو تركت حتى نفخ فيها فلا شك في التحريم، ولو كان الوطء زنا والموطوءة حربية فلا شك أنه غير محترم من الجهتين.
وقد سئل ابن اللبان عن مسلم زنى بذمية ما حكم الولد في الإسلام؟ فلم يجب فيه بشيء، فقال له السائل: إن ابن حزم ذكر في كتاب الجهاد أن الولد مسلم اعتبارًا بالدار، وعند هذا فلا شك في احترامه لا سيما إذا قصد بالوطء قهرها فإنه يملكها كما قاله القاضي الحسين وغيره. اهـ ما قاله الزركشي.
وقال الدميري: لا يخفى أن المرأة قد تفعل ذلك بحمل زنا وغيره، ثم هي إما أمَةٌ فعلت ذلك بإذن مولاها الواطئ لها وهي مسألة الفراتي أو بإذنه وليس هو الواطئ. وهي صورة لا تخفى، والنقل فيها عزيز، وفي مذهب أبي حنيفة شهير.
ففي فتاوى قاضي خان وغيره أن ذلك يجوز، وقد تكلم الغزالي عليها في الإحياء بكلام متين غير أنه لم يصرح بالتحريم. اهـ.
قال الرملي: والراجح تحريمه بعد نفخ الروح مطلقا وجوازه قبله(4).
وقال شهاب الدين القليوبي رحمه الله: نعم يجوز إلقاؤه ولو بدواء قبل نفخ الروح فيه خلافا للغزالي(5) .
وذهب المالكية في المعتمد عندهم أنه يحرم إسقاط الجنين مطلقًا، سواء كان قبل الأربعين أو بعدها.
قال الدردير رحمه الله: ولا يجوز إخراج المني المتكون في الرحم ولو قبل الأربعين يوما وإذا نفخت فيه الروح حرم إجماعا.
قال الدسوقي رحمه الله: قوله: (ولو قبل الأربعين) هذا هو المعتمد، وقيل: يكره إخراجه قبل الأربعين(6).
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى الونشريسي رحمه الله: المنصوص لأيمتنا رضوان الله عليهم المنع من استعمال ما يبرد الرحم، ويستخرج ما داخل الرحم من المني، وعليه المحصلون والنظار.
قال القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه الله: “للولد ثلاثة أحوال:
حال قبل الوجود ينقطع فيها بالعزل وهو جائز.
وحالة بعد قبض الرحم على المني فلا يجوز لأحد حينئذ التعرض له بالقطع من التولد كما يفعله بعض سفلة التجار في سقي الخدم عند إمساك الطمث الأدوية التي ترخيه فيسيل المني معه فتنقطع الولادة.
والحالة الثالثة بعد انخلاقه وقبل أن ينفخ فيه الروح، وهو أشد من الأولين في المنع والتحريم؛ لما روي من الأثر: «وَإِنَّ السَّقْطَ لَيَضِلُّ مُحْبَنْطيًّا عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ يَقُولُ لا أَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَتَّى يَدْخُلَ أَبَوَايَ». فأما إذا نفخ فيه الروح، فهو قتل نفس بلا خلاف”. انتهى.
وانفرد اللخمي فأجاز استخراج ما في داخل الرحم من الماء قبل الأربعين يومًا، ووافق الجماعة فيما فوقها، فإذا وقفت على هذا التحقيق الذي تقدم جلبه من كلام القاضي المحقق أبي بكر رحمه الله علمت قطعًا أن اتفاق الزوج و الزوجة على إسقاط الجنين في المدة التي ذكرت وتواطؤهما على ذلك حرام ممنوع لا يحل بوجه ولا يباح، وعلى الأم في إسقاطه الغرة والأدب، إلا أن يسقط الزوج حقه في الغرة بعد الإسقاط، ومن هذا النمط والمعنى ما سئل عنه عز الدين بن عبد السلام الشافعي رحمه الله: “هل يسوغ للمرأة أن تستعمل أدوية لتمنع من الحمل أم لا؟
فأجاب: ليس للمرأة أن تستعمل ما يفسد القوة التي بها يتأتى الحمل”(7).
وقال الإمام الحطاب رحمه الله: قال ابن ناجي في “شرح المدونة” في القسم بين الزوجات: وأما التسبب في إسقاط الماء قبل أربعين يومًا من الوطء فقال اللخمي: جائز، وقال ابن العربي في القبس: لا يجوز باتفاق، وحكى عياض في “الإكمال” قولين في ذلك للعلماء، وظاهره أنهما خارج المذهب. انتهى.
وقال البرزلي في مسائل الرضاع: وأما جعل ما يقطع الماء أو يسد الرحم فنص ابن العربي أنه لا يجوز، وأما استخراج ما حصل من الماء في الرحم فمذهب الجمهور المنع مطلقًا، وأحفظ للخمي أنه يجوز قبل الأربعين ما دام نطفة كما له العزل ابتداء والأول أظهر؛ إذ زعم بعضهم أنه الموءودة. انتهى كلام البرزلي(8).
وذهب الحنابلة في المذهب عندهم إلى أنه يجوز إسقاط الجنين إذا كان نطفة ولا يجوز إن كان علقة، أي يجوز قبل الأربعين ولا يجوز بعده.
قال الإمام المرداوي رحمه الله: يجوز شرب دواء لإسقاط نطفة ذكره في “الوجيز” وقدمه في “الفروع” وقال ابن الجوزي في “أحكام النساء”: يحرم.
وقال في “الفروع”: وظاهر كلام بن عقيل في الفنون أنه يجوز إسقاطه قبل أن ينفخ فيه الروح قال وله وجه انتهى(9) .
وقال ابن رجب رحمه الله: وقد رخص طائفة من الفقهاء للمرأة في إسقاط ما في بطنها مال لم ينفخ فيه الروح وجعلوه كالعزل، وهو قول ضعيف؛ لأن الجنين ولد انعقد وربما تصور وفي العزل لم يوجد ولد بالكلية، وإنما تسبب إلى منع انعقاده وقد لا يمتنع انعقاده بالعزل إذا أراد الله خلقه كما قال النبي لما سئل عن العزل قال: «لا عليكم أن لا تعزلوا إنه ما من نفس منفوسة إلا أن الله خلقها».
وقد صرح أصحابنا بأنه إذا صار الولد علقة لم يجز للمرأة إسقاطه؛ لأنه ولد انعقد بخلاف النطفة؛ فإنها لم تنعقد بعد وقد لا تنعقد ولدًا(10).
وقال الإمام البهوتي رحمه الله: (ويجوز شرب دواء لإلقاء نطفة) وفي “أحكام النساء” لابن الجوزي: يحرم.
وفي “الفروع” عن “الفنون” إنما الموؤودة بعد التارات السبع، وتلا ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِن طِينٍ﴾ إلى ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ قال: وهذا حلته الروح؛ لأن ما لم تحله لا يبعث فقد يؤخذ منه: لا يحرم إسقاطه، وله وجه(11).
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن امرأة حامل تعمدت إسقاط الجنين إما بضرب وإما بشرب دواء فما يجب عليها؟
فأجاب: يجب عليها بسنة رسول الله واتفاق الأئمة غرة عبد أو أمة تكون هذه الغرة لورثة الجنين غير أمه، فإن كان له أب كانت الغرة لأبيه، فإن أحب أن يسقط عن المرأة فله ذلك، وتكون قيمة الغرة عشر دية أو خمسين دينارًا، وعليها أيضًا عند أكثر العلماء عتق رقبة، فإن لم تجد صامت شهرين متتابعين، فإن لم تستطع أطعمت ستين مسكينا(12).
المفتي: الشيخ الدكتور ياسر ابن النجار الدمياطي، مؤلف موسوعة الفقه على المذاهب الأربعة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مجموع الفتاوى(34/160).
(2)البحر الرائق(3/215) وشرح فتح القدير(3/401، 402).
(3)حاشية ابن عابدين على الدر المختار(3/176).
(4) نهاية المحتاج(8/523).
(5) حاشية قليوبي(4/389).
(6)حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير(3/86) وحاشية الصاوي(5/64).
(7) المعيار المعرب والجامع المغرب(1/ 449).
(8)مواهب الجليل(5/127).
(9) الإنصاف(1/386).
(10) جامع العلوم والحكم ص(49).
(11)كشاف القناع(1/258).
(12)مجموع الفتاوى(34/161).
الفتوى بصيغة فيديو